مع انهيار السياسة في الشرق الأوسط إلى حضيض الصفقات القذرة، أخلت مفاهيم ومعايير السياسة مكانها لأساليب صفقات البورصات، التي لا علاقة لها بالقانون أو النظام العام، وإنما تقوم على سيادة مبررات تحقيق المصلحة الخاصة بكل الطرق. أحد الأساليب الشائعة في ذلك هو صفقات استحواذ كيان على آخر، بحيث يذوب الكيان المستهدف بالاستحواذ، وتنتهي هويته ومقوماته، مقابل حصول أصحاب الحقوق على بعض التعويضات. وأظن أن الرئيس الأمريكي ترامب وممثله الرئيسي في الشرق الأوسط ستيف ويتكوف يعرفان عن فنون ومناورات صفقات الاستحواذ والوساطة العقارية، أكثر مما يعرفان عن معايير السياسة وقوانينها.
تنتشر في الوقت الحاضر رائحة كريهة لصفقة قذرة يتم إعدادها بين واشنطن وتل أبيب، لتسليم غزة والضفة الغربية الى حكومة نتنياهو، بعد أن فشلت القوة الإسرائيلية في فرض سيطرتها على غزة، رغم تكثيف كل قوتها العسكرية هناك. وما يغري الطرفان على ترويج تلك الصفقة هو أنهما يضمنان تأييد بعض الأطراف العربية، التي تكره حماس من باب الأيديولوجية، ولديها الاستعداد الكامل للتضحية بأي شيء، حتى بفلسطين المحتلة كلها في سبيل ذلك. الآن تتبلور تفاصيل الصفقة في لقاءات يجريها رجل نتنياهو المطيع الوزير رون درمر في واشنطن مع أركان الإدارة الأمريكية.
يستعين ترامب على قضاء حاجاته، باستخدام أساليب مختلفة للتأثير النفسي على الأطراف الأخرى، منها الإغراءات بمكاسب ومزايا، حتى لو لم تكن في حوزته، مثل تحقيق حلم نتنياهو في توسيع التطبيع، ودمج إسرائيل في المنطقة، بادعائه القدرة على تحقيق ذلك. ومنها ادعاء تقديم الحماية لمصلحة الأطراف ما يبرر له حق طلب رد الجميل، وقد فعل ذلك في إيران، إذ أنه يكثر من ترديد أنه "أنقذ المرشد الأعلى الإيراني من موتة شنيعة" وكأنه يدعي أن الطرف الآخر ناكر للجميل، لا يقدِّر ما فعله من أجله. وهو الآن يلعب اللعبة نفسها لمصلحة بنيامين نتنياهو، إذ يطالب القضاء الإسرائيلي بإسقاط التهم الموجهة ضده وإنهاء محاكمته، بل يطالب الإسرائيليين باعتباره بطلا قوميا يستحق التخليد.
ترامب مضى إلى أبعد من ذلك بالتهديد بوقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل إذا لم تتوقف المحاكمة. ما يتوقعه ترامب هنا هو أن التأثير النفسي لذلك على نتنياهو شخصيا، يسمح بتليين عناده، وتيسير الوصول إلى حلول وسط في المرحلة التالية من المفاوضات المتعلقة بمستقبل الوضع في غزة. ترامب يريد نصيبا أكبر من غزة، يسمح له بتحقيق حلم تحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". بمعنى آخر فإن ترامب وهو يلعب دور الوسيط، لا يريد من الصفقة مجرد الحصول على العمولة والخروج، وإنما هو يريد الحصول على قطعة من عقد الصفقة، وهو يعرف أنه لن يستطيع تحقيق ذلك من دون موافقة نتنياهو.
الصفقة التي يدور الحديث بشأنها لوقف الحرب لمدة 60 يوما، مع ضمانات "ترامبية" بأن تتوقف نهائيا، تتضمن شروطا لإنهاء الحرب، وضعتها إسرائيل بالاتفاق مع ستيف ويتكوف على النحو التالي: (1) نزع سلاح المقاومة في غزة. (2) نفي قياداتها العليا. (3) تقديم ضمانات لحماس لإنهاء الحرب بشكل كامل، حتى لو لم تُختتم المحادثات بعد 60 يوما. (4) يؤجل الاقتراح المطروح القضايا الخلافية إلى مراحل لاحقة من المفاوضات. (5) خلال فترة وقف إطلاق النار يُطلق سراح 10 رهائن أحياء وتسليم 15 جثة. (6) مقابل ذلك يتم إطلاق عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال حسب الصيغة التي تم اتباعها في المرات السابقة.
(7) يستمر تبادل الأسرى والمحتجزين طالما استمرت المفاوضات. (8) قيام إسرائيل بتنفيذ انسحاب جزئي وتدريجي، يكون مرهونا بالتقدم في مفاوضات الوضع النهائي، من دون تحديد لنطاق الانسحاب. (9) في المناطق التي ستنسحب منها إسرائيل لن تعود حماس والمقاومة، وإنما ستحل محل قوات الاحتلال قوة عربية مشتركة، تضم على الأرجح قوات من مصر والمغرب والإمارات والبحرين، حسب تقارير متداولة في كل من واشنطن وتل أبيب، لكن هذه الدول أعربت عن تحفظها على المشاركة قبل نزع سلاح حماس تماما.
هذا الإطار المعروض للمفاوضات يهدف إلى تجريد "حماس" وفصائل المقاومة في غزة من كل ما تبقى لديهم من أوراق التفاوض: السلاح والمحتجزين! ولا يوجد لدى المقاومة الفلسطينية غير ذلك للضغط من أجل مفاوضات حقيقية. ويعني القبول بهذا الإطار تصفية مبكرة للقضية الفلسطينية برمتها، وانفراد إسرائيل بحرية الحركة في قطاع غزة. إسرائيل تريد اقتطاع مناطق شمال مدينة غزة فورا، وبدء موجة استيطان جديدة هناك. ثم بعد ذلك يأتي الدور على بقية القطاع. وطبقا للصفقة يتم تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، مع تجريدهم من حق العودة، بأخذ إقرار منهم بأن مغادرتهم للقطاع اختيارية! وتعمل إسرائيل على إقناع عدد من دول العالم والدول العربية بقبول أعداد كبيرة من سكان غزة.
ستحصل إسرائيل ونتنياهو في حال نجاح الصفقة على عدد من الهدايا في سلة واحدة. الجائزة الأولى سيحصل عليها نتنياهو بوقف محاكمته، إذا استجاب القضاء لنداءات ترامب. الجائزة الثانية، هي استعادة المحتجزين العشرين الأحياء، وبقية جثث القتلى من دون قتال، ما يهدئ الرأي العام المناهض للحرب، ويوفر لحكومة نتنياهو بيئة هادئة للمناورة بسهولة في غزة. وأظن ان استعادة المحتجزين ستكون لحظة مثالية للإعلان عن إجراء انتخابات مبكرة في إسرائيل أملا في أن يفوز بها الائتلاف الحاكم. الجائزة الثالثة، تأكيد سيادة إسرائيل على الضفة الغربية باعتراف ترامب بسيادة "محدودة" لها هناك، ما يمهد لإنهاء شرعية السلطة الوطنية الفلسطينية، وإجراء إصلاحات شاملة تتحول بمقتضاها إلى مجالس للإدارة المحلية في الجيوب العربية، مع السماح لهذه المجالس بإقامة نوع من الرابطة المشتركة في ما بينها.
الجائزة الرابعة هي إقامة تحالف أمريكي- إسرائيلي لتحويل غزة الى منتجع عالمي مفتوح يلعب فيه ترامب دور المنظم/المستثمر. ومن المرجح اقتطاع منطقة شمال مدينة غزة، ومناطق في شرق القطاع لبناء مستوطنات إسرائيلية لإرضاء اليمين الديني الصهيوني، وضمان استمرار بنية الحكم الحالي في إسرائيل من دون تغيير جوهري بعد الانتخابات المقبلة. الجائزة الخامسة هي دمج إسرائيل عسكريا واقتصاديا وثقافيا في المنطقة العربية، وإزالة كل ما يحول دون ذلك. في المقدمة تأتي سوريا والسعودية، من خلال توسيع نطاق التطبيع، وقد توصل نتنياهو وترامب إلى توافق عام حول هذه القضايا ويخططان لتطبيقها بسرعة، بدءا من إنهاء الحرب في غزة، حيث تجري وراء الأبواب المغلقة محادثات بين الأطراف المعنية.
لا يوجد مشروع فلسطيني موحد واضح الملامح والتفاصيل، تعززه آلياته لتحقيقه على الأرض. في الوقت نفسه فإن معظم البيانات الدبلوماسية المتعلقة بتأييد دول عربية لحل الدولتين، تعبر عن مجرد رغبة في مسايرة الرأي العام، وخجل من حقيقة أن دولا غير عربية مثل جنوب افريقيا وأيرلندا وإسبانيا والنرويج هي التي تتصدر الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة. اليمين الإسرائيلي والأمريكي لا يرى مكانا لدولة فلسطينية على حدود إسرائيل.
على العكس من ذلك فإن السفير الأمريكي لدى تل أبيب القس المسيحي الصهيوني مايك هاكابي، يطلب من الدول العربية أن تتولى حل القضية باستضافة الفلسطينيين وإقامة دولة لهم على جزء من الأراضي العربية الشاسعة غير المأهولة. وبمقتضى الصفقة فإن قطاع غزة كله لن يذهب إلى إسرائيل، لأن ترامب يطمع في الحصول على نصيب منه، لإقامة منتجع ترفيهي عالمي يحمل اسمه، كما هو الحال مع برج ترامب والعملة الرقمية والموبايل الذهبي وغيرها من منتجات عالم ترامب التجارية.
لقد فشل نتنياهو في تحقيق أهدافه من حرب غزة بالقوة، وليست لديه استراتيجية غير تكرار ما يفعله منذ 21 شهرا تقريبا، بلا نتيجة غير تكريس عمليات الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني بالقتل والتجويع والتهجير، وهي الأسلحة الرئيسية لحرب الإبادة. ومنذ أن دخل ترامب على خط الحرب في غزة، يحاول تقديم طريق آخر لتحقيق أهداف حرب الإبادة بوسائل أخرى.
ويعلم ترامب، كما يعلم جنرالات الولايات المتحدة أن الجيش الإسرائيلي لن ينتصر في غزة، وإنما سيظل ينزف وينزف حتى يخور ويرحل. ما يقدمه ترامب هو طوق نجاة لنتنياهو وحكومته، لإنهاء الحرب في غزة بصفقة قذرة يتربح هو شخصيا منها. إذا نجحت صفقة ترامب، فإن الشرق الأوسط بعدها سيكون مختلفا تماما عما كان قبلها. هذا يثير علامات استفهام كبرى حول مدى قبول دول المنطقة للتغييرات المتوقعة، ومدى قدرة المقاومة الفلسطينية على مواصلة الصمود.
(القدس العربي)