خرجت تصريحات من إسلام آباد، تَشي بتحوّلٍ لافتٍ مُحتمل، تجاه إعادة النظر في عقيدتها النووية لتتماشى مع مصالح إسلامية أو عربية أوسع، لكنّ باكستان نفت رسميًا وجود أي خطط لاستخدام أسلحتها النووية لدعم إيران.
ويتجلّى التأثير الأعمق للضربة الإسرائيلية الأخيرة لطهران، في إجراء مراجعةٍ صامتةٍ من باكستان لعقيدتها النووية، بما يشمل توسيع مفهوم الردع، وإعادة رسم أولويات أمنها القومي في ضوء متغيّرات جوهريّة في ميزان القوى الإقليمي.
ظهر مُصطلح "قنبلة الإسلام" كظاهرةٍ إعلاميةٍ وجيوسياسيةٍ نهاية السبعينيّات، للإيحاء بأنّ امتلاك أي دولة "إسلامية" لسلاحٍ نوويّ سيجعل منه "سيفًا نوويًا" في سبيل الجهاد ضدّ العالم غير المسلم، وسط حالةٍ من الهلع الغربي تجاه انتشار الأسلحة النووية إسلاميًا.
وامتدّت "القنبلة الإسلامية" في مخيّلة الغرب على مساحةٍ جغرافيةٍ تمتدّ من باكستان إلى إيران والعراق وليبيا وشمال أفريقيا، مؤكدةً ارتباطها بالهوية الإسلامية أكثر من الحسابات الاستراتيجية الوطنية.
لكنّ الغطاء الديني في خطاب بعض الإيديولوجيين في باكستان، كان مجرّد أداةٍ لخدمة أهدافٍ باكستانيةٍ قومية، باعتبار أنّ لباكستان مصلحة في تطوير نفسها، كوصيّ على الطاقة النووية الإسلامية.
لقاء واشنطن الاستثنائي
ووسط المخاوف من تحوّل الصراع بين إسرائيل وإيران، إلى حربٍ إقليميةٍ شاملةٍ، كان لافتًا الاجتماع الاستثنائي بين المُشير عاصم منير والرئيس الأميركي دونالد ترامب، على مأدبة غداء، في رمزيةٍ غير مسبوقة، إذ لم يَسبِق لأي رئيس أميركي أن استضاف قائد الجيش الباكستاني في اجتماعٍ رفيع المستوى ومغلقٍ على هذا النحو.
خلال الاجتماع نوقش الصراع بين إيران وإسرائيل بشكلٍ مفصل، حيث أعرب ترامب عن تقديره لدور باكستان، لكنّ تقديم الدعم العسكريّ الباكستاني لإيران ظلّ في إطار الافتراض، في غياب أي طلب رسمي من إيران.
شكّل استهداف منشآت إيران النووية، قلقًا عميقًا في إسلام آباد، بينما رأى محلّلون أنّ ترامب كان يسعى إلى شريكٍ يتمتّع بـ"قربٍ جغرافيّ" و"قدرةٍ استخباراتيّة".
استدعت الحرب بين إسرائيل وإيران اعتبار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أنّ "أعظم مهمّة لدى إسرائيل هي منع نظامٍ إسلاميّ من الحصول على أسلحةٍ نوويةٍ؛ الأول يُدعى إيران، والثاني يُدعى باكستان!".
تنسجم هذه التصريحات مع إحباط باكستان في مطلع الثمانينيّات، خطةً مشتركةً بين الهند وإسرائيل سرًّا لتدمير منشأة "كاهوتا" النووية الباكستانية بهدف منع باكستان من تصنيع قنبلةٍ نووية.
وعلى الرَّغم من الحديث عن شبكة التهريب النووي التي أنشأها عبد القدير خان، الأب الروحي للبرنامج النووي الباكستاني، والذي اعتُقل عام 2004، بعد الكشف عن بيعه التكنولوجيا النووية لإيران وكوريا الشمالية وليبيا وغيرها، فقد خلص الغرب إلى أنّه لا أدلّة تدعم فكرة مشروع نووي متّسق الطابع الإسلامي يتجاوز نطاق الأمن الوطني الباكستاني.
لقاء حامل الأسرار النووية
قبل سنوات عديدة، أُتيحت لي في القاهرة مقابلة نادرة واستثنائية مع فاروق أحمد خان ليغاري الرئيس السابق لباكستان، الذي كان يزور العاصمة المصرية مبعوثًا لرئيس باكستان السابق الجنرال برويز مشرّف آنذاك.
لدهشتي حينما سألته عن قنبلة باكستان الإسلامية وكيف أنّ المسلمين والعرب يعتبرونها بمثابة "قنبلتهم النووية"، قال الرجل بوضوح: "لا هذه ليست قنبلة العرب أو المسلمين، لكنّها قنبلة باكستان وهي ليست للبيع أو الإيجار".
روى لي ليغاري، الذي امتلك يومًا ما بأصابعه وببصمة صوته، إطلاق قنبلة نووية، أن لا أحد من العرب أو المسلمين ساعد بلاده لكي تمتلك قنبلتها الأولى، مُنكرًا تلقّي مساعداتٍ عربيةٍ لإحباط طموحات الهند النووية!.
الآن وبعد ضرب برنامج إيران النووي، تغيّر الكثير لكي تُعيد باكستان، التي تمتلك ترسانةً نوويةً تُقدَّر بـ170 رأسًا نوويًا، النّظر في استراتيجيتها النووية، وأن تسعى لتوسيع مفهوم الرّدع ليشمل تهديداتٍ محتملةً خارج دائرة صراعها التقليدي مع الهند.
وفرضت الحرب الإيرانية - الإسرائيلية، تحوّلًا نسبيًا في اعتماد باكستان نظرية الانعزال النووي، ورفض ربطها بأي سياقٍ إقليميّ أو عربيّ، إذ لم تَعُد باكستان معزولةً بحكم التطوّرات الإقليمية، بيد أنّها بحاجةٍ إلى ظهيرٍ عربيّ وإسلاميّ في معركةٍ مقبلة محتملة...
ومع إخفاق العرب في امتلاك برنامجٍ نوويّ، نتيجة الضغوط الدولية، والانقسامات السياسية، وغياب الإرادة الموحّدة. من مشروع العراق في عهد صدام حسين، الذي دمّرته إسرائيل عام 1981، إلى الطموحات الليبية التي انتهت بتخلّي القذافي طوعًا عن برنامجه، مرورًا بتطلّعات السعودية المشروطة بردعٍ نوويّ مقابل إيران، ظلّ الحلم النووي العربي رهين التمنّيات.
افتقاد العرب إلى رؤيةٍ استراتيجيةٍ مشتركةٍ، أو قاعدةٍ علميةٍ وتقنيةٍ، منحهم موقع المتفرّج على تحوّلات الردع النووي في المنطقة، من طهران إلى تل أبيب، مرورًا بإسلام آباد... فـ"لا تُمنّوا أنفسكم بقنبلة باكستان، لكن ابحثوا عن قنابلكم الخاصة"، تلك كانت كلمات ليغاري في القاهرة.
الإجابة مؤلمة، والبحث عنها أيضًا لا يقود سوى إلى ضرورة مراجعةٍ نوويةٍ عربية، كبديلٍ لخيبة أملٍ كبيرة، بحجم ما فعلته قنابل أميركا النووية في اليابان!.
(خاص "عروبة 22")