اتّخذ هذا النشاط أبعادًا سياسية نضالية أكثر وضوحًا خاصة بعد تأسيس مكتب المغرب العربي في دمشق والقاهرة سنة 1947 وبعد استقلال كلّ من تونس والمغرب الأقصى. انعقد مؤتمر طنجة (28-30 نيسان 1958) الذي بلورت فيه الأحزاب الوطنية المغاربية أرضية لتوحيد المنطقة ورغم فشل تلك الصيغة في تحقيق الكثير من أهدافها، غير أنّ هاجس إقامة مغرب عربي موحّد استمرّ كأحد ثوابت الأحزاب والتنظيمات السياسية والاجتماعية المغاربية.
ظلّ الاتحاد هيكلًا جامدًا بدون روح غير قادر على الدفع نحو الاندماج الاقتصادي بين دوله
بعد استقلال الجزائر كانت هناك محاولات لإنجاز تكامل اقتصادي بين دول المغرب العربي، وذلك على خلفية المقوّمات والثوابت التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية والتحديات الداخلية والخارجية، التي تُشكّل في مجموعها حوافز لتحقيق المشروع، حيث تمّ إنشاء اللجنة الاستشارية للمغرب العربي عام 1964 لتنشيط الروابط الاقتصادية بين دول المغرب العربي.
كان بيان اجتماع القادة المغاربة بمدينة زرالده في الجزائر (بتاريخ 10 حزيران 1988) قد مهّد الطريق الى مؤتمر مراكش (بتاريخ 17 شباط 1989) الذي أُعلِن فيه عن قيام الاتحاد المغاربي من قبل الدول المغاربية الخمس. غير أنّ الإنجاز أخذ في التعثّر منذ سنة 1994 وصولًا إلى جمود شبه كلّيّ إذ ظلّ الاتحاد هيكلًا جامدًا بدون روح غير قادر على الدفع نحو الاندماج الاقتصادي بين دوله.
للعامل الخارجي دور في تعطيل إنجاز الاندماج المغاربي
لا شكّ أن من أهمّ أسباب هذا الوضع هو الخلاف العميق بين كل من المغرب والجزائر حول مسألة الصحراء، وما تفرّع عنها من إجراءات سياسية ودبلوماسية وأمنية (غلق الحدود بين القطرين وقطع العلاقات الدبلوماسية). توسّعت تلك الاجراءات وتمدّدت لبقية الدول الاتحاد (سحب سفيري كلّ من المغرب وتونس، تأثير الأزمة الليبية..) ومشكلة الاعتراف بالكيان الصهيوني، ما ضاعف من نسبة التوتر بين البلدين بالإضافة إلى سعي كلّ من الجزائر والمغرب نحو زيادة الإنفاق على التسلّح ما انعكس سلبًا على التنمية وتوفير الموارد اللازمة لتلبية الاحتياجات الأساسية لشعبيهما.
ويبدو أنّ للعامل الخارجي دورًا في تعطيل إنجاز الاندماج المغاربي، فمنطقيًا وإجرائيًا يُفترض أن يُساند الاتحاد الأوروبي ويدعم اندماجًا مغربيًا يخدم مصالح الطرفين، غير أنّ الأمر كان عكس ذلك وربما يقف بعض دول غرب المتوسط بعينها سدًّا أمام تحقيق هذا الكيان في ظلّ ذلك الانقسام.
استثمر الاتحاد الأوروبي العديد من اتفاقيات الشراكة مع دول المغرب العربي بشكل انفرادي، مستغلًا واقع الخلاف بين الدول المغاربية، ففرض شروطه الاقتصادية وأجنداته السياسية التي تتناقض مع مصالح دول الاتحاد، كما فوّتت الدول المغاربية إمكانية أن تلعب دورًا إقليميًا ودوليًا يتماشى ووزن المنطقة الاقتصادي والبشري وموقعها الجغرافي المتميّز.
نتيجة لكل ذلك، تدفع شعوب المنطقة ثمنًا باهظًا، ومن ذلك أنّ المغرب يُفقد المنطقة سنويًّا ما يقارب 2 إلى 3 نقاط نموّ، كما يُكلّف بلدانه خسارة تُقدّر بنحو 6.1 مليار دولار من حجم المبادلات التجارية سنويًا. كما يؤدي عدم تجسيم قرارات تحرير تنقّل رؤوس الأموال والسلع والمسافرين في اتجاهات الدول الخمس إلى حرمان مئات الآلاف من شباب الدول المغاربية العاطلين عن التنقّل السلس والعمل الحرّ.
أما عدم إطلاق سوق مغاربية موحّدة (تضم نحو 100 مليون مستهلك)، فينعكس بالضرورة سلبًا على كلّ فرص الإنتاج والاستثمار والتشغيل. في الوقت الذي يمكّن الاندماج المفترض بين الدول المغاربية من رفع نسبة النموّ لكلّ دولة بنحو 2 في المائة (حسب خبراء البنك الدولي)، بالإضافة إلى توفير فرص شغل إضافية وتحسين مناخ الاستثمار، ما ينعكس إيجابيًا على القدرة الشرائية للمواطنين.
مطلب حيويّ مصيريّ، بل وجوديّ لمستقبل شعوب المنطقة
وعلى خلفية ما سبق أعلاه، يتطلّب من القيادات السياسية الحاكمة التفكير بمنطق عقلاني لتجاوز المشكلات السياسية الراهنة والتفكير في مستقبل شعوبها والاستئناس بتجربة الشعوب التي تجاوزت خلافاتها التاريخية، برغم ما ولّدته من مآسي إنسانية واقتصادية، من أجل مستقبل شعوبها وتحقيق رفاهيتها.
بالتوازي مع ذلك، يمكن للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني المؤمنة بهذا المشروع أن تبذل جهدًا لتقديم المبادرات والاقتراحات في ما بينها والضغط السلمي على الأنظمة من أجل تفعيل مشروع الاتحاد المغاربي، حتى تحويله إلى قضيّة رأي عام ومطلب حيويّ مصيريّ، بل وجوديّ لمستقبل شعوب المنطقة.
فرغم جميع الإكراهات السياسية الخارجية والداخلية، بين دول المنطقة، الطارئة أو الموروثة، يظلّ الأمل قائمًا في قدرة أبناء المغرب العربي ونُخبه في إنجاز هذا المشروع الذي ضحّى من أجله الكثيرون، باعتباره مشروعًا قادرًا على مساعدة المغاربة على حلّ الكثير من مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية التي تستعصي معالجتها بشكل منفرد.
(خاص "عروبة 22")