تقدير موقف

"كلُّ هذه الأسباب مجتمعة": حين تراكمت كلّ العلل (1/2)قراءة تحليليّة لتردّي الواقع العربي في ضوء استبيان "عروبة 22"

ما العامل الأكثر تأثيرًا في تردّي الواقع العربي؟ كان هذا هو سؤال "الاستبيان" الذي طرحته منصة "عروبة 22" على قرّائها. بدا السؤال بسيطًا في ظاهره، لكنّه احتفظ بعمق مدلوله لدى طرحه خياراتٍ أربعة: أوّلها "ضعف الحوكمة وغياب الديمقراطية وفعّالية المجتمع المدني"، وثانيها "التفكّك الاقتصادي والسياسي"، وثالثها "الأطماع الإقليمية والتدخّلات الخارجية"، وكان الخيار الأخير: "كلّ هذه الأسباب مجتمعة". وقد جاءت النتيجة حاسمة: الغالبية النسبية اختارت الإجابة المُركّبة التي تبدو في ظاهرها مُربكة.

حتّى كتابة هذه السطور، كان ترتيب الإجابات حسب النسبة المئوية، من الأدنى إلى الأعلى، على النحو الآتي: (التفكّك السياسي والاقتصادي 6.5%، الأطماع الإقليمية والتدخلات الخارجية 8.6%، ضعف الحوْكمة وغياب الديمقراطية وفعّالية المجتمع المدني 18.3%، كلّ هذه الأسباب مجتمعة حازت نسبة 66.6%).

حين تتراكم العلل تتعطّل الحركة ويتحوّل الانحدار إلى ما يشبه قدرًا مكتوبًا على أمّة منكوبة

توزعت الإجابات بين الخيارات الأربعة، لكنّ الإجابة التي اكتسحت ـ والتي دفعتني إلى تحليل مضمونها جميعًا ـ لم تكن اختيارًا لأحد العوامل الثلاثة، بل كانت إقرارًا صريحًا بأنّ "كلّ هذه الأسباب مجتمعة" هي التي صاغت الملامح الرديئة لهذا الواقع الذي نعيشه اليوم. واقع لا يكفي فيه أن نشير إلى موضع الألم، بل ينبغي أن نفهم كيف تفشّى المرض في الجسد كلّه، وكيف تراكمت العِلل على هذا الجسد العليل.

"كل هذه الأسباب مجتمعة" تقدّم إجابةً نموذجيةً لتفسيرٍ أكثر دقّة لتردّي الواقع العربي.

حين اختارها المشاركون في "الاستبيان"، لم يقدّموا مجرد إجابةٍ على سؤال، بل كانوا يضعون أيديهم على جرحٍ مفتوحٍ منذ عقود: حين تتراكم العِلل، تتعطّل الحركة، ويتحوّل الانحدار إلى ما يشبه قدرًا مكتوبًا على أمّةٍ منكوبة.

إنّنا لا نقف أمام حادثٍ عابرٍ أو أزمةٍ طارئةٍ، بل أمام بنيةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ نشأت على مدى عقود، اختلطت فيها الحسابات الداخلية بالأطماع الإقليمية، وتقاطعت فيها الإرادات المحلية مع التدخّلات الخارجية.

أفضل ما في هذه الإجابة، في عُمقِها الظاهر، أنّها جاءت محمّلةً بإدراكٍ جمعيّ ناضجٍ، بأنّ ما نشهده من أزماتٍ ليس وليد عامل واحد، ولا لحظة سياسية عارضة، بل هو نتاج شبكةٍ من الأسباب المتداخلة التي تتكامل في إنتاج التردّي، وتتناوب على إدامته.

وعي جمعي ينشد معالجة شاملة تتناول البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإقليمية 

أي تحليلٍ جاد لمدلولات هذا الاختيار، عليه أن يسعى جاهدًا لفهم هذه الشبكة المُركّبة من العوامل، التي أدّت، لا مجتمعة فقط، بل متفاعلة، إلى إرباك حركة الأمّة وتعطيل مشروعها نحو الاستقلال والنهوض.

يكشف ترتيب الخيارات الأخرى ضمن نتائج "الاستبيان" عن وعيٍ متصاعدٍ بأنّ الخلل الأكبر هو خلل داخلي؛ إذ جاء في المرتبة الثانية بند "ضعف الحوْكمة وغياب الديمقراطية وفعّالية المجتمع المدني"، مَتبوعًا بـ"التدخلات الإقليمية"، بينما حلَّ "التفكّك السياسي والاقتصادي" في ذيل القائمة.

هذا الترتيب لا يعكس استهانةً بالجوانب الاقتصادية، أو استخفافًا بالأدوار الإقليمية، بل هو اعترافٌ بأنّ ما يُرى من الخارج ليس سوى انعكاسٍ لما اختلّ في الداخل، وأنّ اختلال البنية السياسية هو ما أفسح المجال للتدخلات، لا العكس.

هذا الوعي الجمعي - حين يربط بين العوامل جميعها ـ لا يُلقي فقط بلومه على الأطراف كافّة، بل يُفصح عن مطلبٍ صريح: أنّ الحلّ لا يمكن أن يكون تجزيئيًا، ولا إصلاحيًا بالمعنى التقني الضيّق.

إنّه وعيٌ ينشد معالجةً شاملةً، تتناول البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإقليمية في آنٍ معًا؛ لأنّ تفكيك الأزمة على الورق لا يُجدي، ما لم يُقابَل بإرادةٍ تُدرك أنّ البناء لا ينجح إنْ أُعيد ترميمه من زاويةٍ واحدة، بينما الأُسُس كلّها تنوء تحت الركام.

التفكّك السياسي والاقتصادي نتيجة لضعف الحوْكمة وغياب الديمقراطية وتغييب المجتمع المدني والضغوط الخارجية

يُضاف إلى ذلك وعيٌ خاص بمدى تأثير سوء الإدارة في جميع مناحي الحياة، من الاقتصاد إلى السياسات العامّة. ولذلك، جاء تاليًا الخيار الذي يتحدّث عن "ضعف الحوْكمة وغياب الديمقراطية وفعّالية المجتمع المدني"، وهو أمر متوقّع، نظرًا لأن الإدارة الفعّالة ومشاركة المواطنين في صنع القرار تُعدّان من أهم ركائز أي نظام مستقرّ وقادر على مواجهة التحديات.

على الرَّغم من أنّ بند "الأطماع الإقليمية والتدخلات الخارجية" يُعدّ عاملًا مُهمًّا لا يمكن إغفاله، فإنّ عدد الأصوات التي حصل عليها يشير إلى أنّ المشاركين يرون أنّ المشكلات الداخلية، مثل ضعف الحوْكمة والتفكّك السياسي، تلعب دورًا أكبر في تردّي الأوضاع، قبل أن يأتي التدخّل الخارجي ليزيد من تعقيد المشهد.

وجاء "التفكّك السياسي والاقتصادي" في ذيل قائمة الأسباب، على الرَّغم من كونه من التحدّيات الجوهرية. تعكس قلّة الأصوات ـ في نظري ـ رؤيةً مفادها بأن هذا التفكّك ليس مصدرًا للأزمة بحدّ ذاته، بل هو نتيجة طبيعية لضعف الحوْكمة، وغياب الديمقراطية، وتغييب المجتمع المدني، والضغوط الخارجية مجتمعة.

القراءة المعمّقة لهذه النتائج تُفيد بعدّة أمور:

ـ ضعف الحوْكمة وغياب الديمقراطية يُعتبران المحرّك الأساسي للأزمات الأخرى، مما يدلّ على ضرورة التركيز على تحسين الإدارة السياسية وتعزيز المشاركة الشعبية.

ـ الأطماع الإقليمية والتدخّلات الخارجية تُعدّ عاملًا مؤثّرًا، لكنّه ليس السبب الجذري، ما يعني أنّ الإصلاح الداخلي يجب أن يكون هو الأولوية، وربّما يُصلّب الجبهة الداخلية حين تتصدّى لمواجهة التدخلات الخارجية.

كسر حلقة التردّي يبدأ من الإيمان بأنّ حال العرب اليوم ليس قدرًا مكتوبًا بل نتيجة لاختيارات وتراكمات

ـ التفكّك السياسي والاقتصادي يُنظر إليه كنتيجةٍ لا كمسبّبٍ رئيسيّ، ممّا يشير إلى أنّ إعادة بناء الدولة من الداخل قد يكون هو الحل الأكثر فعّالية.

ـ هناك اعترافٌ واسعٌ بأنّ المشكلات مُترابطة، وبأنّ الحل يتطلّب معالجةً شاملةً لجميع الجوانب المتداخلة.

الوعي بهذا الترابط يمكن أن يكون خطوةً أولى نحو التفكير في حلولٍ أكثر تكاملًا. فبدلًا من التركيز على نقطةٍ واحدةٍ فقط، يمكن البحث عن استراتيجيّات إصلاحٍ تعالج هذه التفاعلات المعقّدة، كإصلاحاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ مُتزامنةٍ تعزّز الحوْكمة وتحدّ من التدخلات الخارجية، مما يُسهم في كسر الحلقة المفرغة التي تُعيق التقدّم.

قد يكون الطريق شاقًّا، لكنه يبدأ دائمًا بخطوة الاعتراف بأنّ "كلّ هذه الأسباب مجتمعةً" هي التحدّي، وبأنّ كسر حلقة التردّي الراهن يبدأ من الإيمان بأنّ حال العرب اليوم ليس قدرًا مكتوبًا، بل نتيجة لاختيارات وتراكمات.

نتائج استبيان "عروبة 22" تفتح المجال لنقاش أعمق حول كيفية معالجة الأزمات بشكل شمولي وتصلح أن تُقرأ كوثيقة وعي

وعلى هذا، فإنّ تجاوز تلك الحال لا يكون بالتمنّي، ولا بالشعارات، بل بمشروعٍ نهضويّ يُعيد تعريف الدولة، ويمنح المواطن مكانته، ويستعيد القرار الوطني، ويُحسن استثمار الثروات في بناء الإنسان، لا في بناء الأوهام.

ما انتهى إليه استبيان "عروبة 22" من نتائج تفتح المجال لنقاشٍ أعمق حول كيفية معالجة الأزمات بشكلٍ شمولي، والنتائجُ في مُجملها، لا تُمثّل فقط رأيًا عامًا، بل تصلح أن تُقرأ كوثيقة وعي، أو كنقطة انطلاقٍ لتحليلٍ أعمق يسعى إلى تفكيك هذه العوامل، وإعادة تركيب الصورة الكبرى:

كيف تراكمت كلّ هذه العِلل؟ وكيف باتت، مجتمعةً، تُعيق انطلاقة التغيير؟

هذا ما سنفرد له قراءة خاصة في الجزء الثاني من هذا المقال.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن