وجهات نظر

في معنى أن تكون عربيًا.. أزمة التعريف والمفاهيم

هل صدمتكم، أو على الأقل فاجأتكم الصورة (المرفقة مع المقال)؟... بالمناسبة، هي ليست "مصرية"، كما قد تقول لنا العبارة "الواضحة / الصادمة" على القميص، بل هي، إن نظرنا حولنا جيدًا "عربية" بامتياز.

في معنى أن تكون عربيًا.. أزمة التعريف والمفاهيم

كنّا في بيروت قبل سنوات، وكان الحاضرون شباب "عربي" من "أقطار عربية" مختلفة، وكانت المناسبة مناقشة قضايا تقرير التنمية الإنسانية العربي الذي يصدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وكان السؤال الذي طرحتُه على الحاضرين الذين تقلّ أعمارهم عن الخمسة وعشرين عامًا: "إلى أيّ هوية، أو هويات تعتبر أنك تنتمي؟" وفيما قد يبدو مفاجئًا لجيل ينتمي فكريًا للقرن الذي مضى، لم تكن "العروبة" حاضرة في أغلب إجابات الجيل الجديد، والتي تنوّعت يومها بين أكراد، وأمازيغ، ومسلمين (سنّة، أو شيعة)، وما إلى ذلك من تنوّعات عرقية، أو طائفية، أو قطرية.

القميص المصري الذي جرى الترويج له قبل أيام، والإجابات البيروتية قبل سنوات، والشجارات "العنصرية" اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي، وسائق التاكسي في فرانكفورت الذي أشرتُ إليه في المقال السابق، والذي أكرمني عندما اكتشف أنني أتحدث العربية، مشيرًا إلى "أننا أهل"، رغم حرصه على توضيح أنه من أكراد سوريا "لا من عربها"، كل ذلك استدعى إلى ذاكرتي واقعة، قد تبدو قديمة ولكني أحرص على استدعائها، (وروايتها كما حدثت) كلّما حضر الكلام عن "الهوية"؛ إشكاليةً أو مفهومًا، أو كلّما بدا أنّ بوصلتها قد اهتزّت بما يظهر من دلالات لهذه الواقعة أو تلك.

كنا في نهاية ٢٠٠١، كان العراق تحت الحصار بموجب قرار من مجلس الأمن. وكان شماله (الكردي) شبه مستقلّ واقعيًا بموجب تلك القرارات. وكان للأمم المتحدة مكتب في أربيل (عاصمة إقليم كردستان). وكان الاتصال بالمكتب، أو العاملين به يتمّ عبر أرقام هاتف مسجّل في نيويورك.

عندما هاتفتُ أحدهم ذات صباح، ردّت عليّ عاملة "البدالة". وعندما علِمَت أنني أتحدث من القاهرة، أعربت عن ما بدا سعادة فطرية غامرة، وفي انتظار أن يفرغ هاتف من طلبت، أخذتني الفتاة في حوار طويل حول أغنيات أمّ كلثوم، وأفلام إسماعيل ياسين، وقراءات عبد الباسط عبد الصمد. ثم كان أن اكتشفتُ في نهاية الحوار "الثقافي" الطويل أنها "كردية". ساعتها اكتشفتُ مدى ضحالة النظر إلى العروبة على أنها محض عرق أو قومية، لا "ثقافة جامعة". وساعتها اكتشفتُ كم كانت جريمة كلّ الذين استخدموا التباينات القومية، أو الطائفية، أو العرقية من أجل إحكام السيطرة على شعوبهم؛ "الواحدة"، واقعيًا بحكم "الثقافة الجامعة".

ليس "صدام هويات" بل أزمة "تعريفات ومفاهيم" حين لا ندرك أنّ الهوية بحكم طبيعتها مركّبة

في كتابه المهم "Identity and Violence: The Illusion of Destiny" الذي جاء نتاجًا لتجربته الشخصية في مجتمع يعجّ بالإثنيات، والديانات، ويتحدث أهله بما يقارب الألف لغة، يذكّرنا أماراتيا سن صاحب نوبل (1998) بوهم "الهوية المتفردة"، وبأن لكلّ إنسان، بطبيعته كحيوان "اجتماعي" هويات متعدّدة متشابكة ومترابطة، حتى وإن بدت متنافرة في بعض الأحيان، إلا أنّ مزيجها (لغةً، ودينًا، ولونًا، وجنسًا، وأيديولوجيةً.. إلخ) يُمثّل في النهاية هويته الجامعة. كلنا بلا شكّ ندرك ونفهم ما ذهب إليه المفكّر الهندي، ولكننا قد نغفل عن حقيقة أنّ غياب المواطنة الحقيقية هو الذي يدفع الناس، دون أن يشعروا، للاحتماء بهوياتهم الفرعية الصغيرة؛ طائفةً كانت، أو قبيلةً، أو حتى التنقيب في سراديب التاريخ.

لا تختلف الصورة "المصرية"، عن الإجابات "البيروتية"، عن المَسيرات "العراقية"، عن الصدامات العنصرية "الشعبوية" على الإنترنت.

هو ليس "صدام هويات"، بل أزمة "تعريفات، ومفاهيم"، حين لا نُدرك أنّ الهوية بحكم طبيعتها مركّبة، وأنّ كلًا منّا بحكم عرقه، ودينه، ومعتقده السياسي، وعائلته، ومهنته، وجواز سفره، وحتى الموسيقى التي يُحبّها، أو النادي الرياضي الذي يشجّعه له هويات عدّة تربطه بالآخر الذي قد يبدو "مختلفًا" عنه في هذا الجانب أو ذاك.

يخطئ المصريون "الشوفينيون" الذين يعتقدون أن عروبتهم تتعارض مع كونهم أحفاد أحمس (مع افتراض صحّة النسب!!)، كما يخطئ الأكراد حين ينسون أنّ صلاح الدين "الكردي" كان قائدًا "عربيًا إسلاميًا".

لم يسأل أحد ليلى مراد عن دينها، وهي تغني: "يا رايحين للنبي الغالي"، ولا وردة "الجزائرية" عن جنسيتها المدوّنة في جواز السفر وهي تغني "نشيد مصر".

لكم يبدو المشهد عبثيًا حين ينسى لابسو القميص المصري ذاك (ناكرو عروبتهم) أنّ كليوباترا؛ التي انتفضوا قبل أشهر للدفاع عن لون بشرتها "المصري" كانت بطلمية مقدونية، وأنّ محمد علي باشا، باني نهضة مصر الحديثة كان ألبانيًا، وأنّ ابنه ابراهيم باشا الذي يتفاخرون بهزيمته للقبائل "العربية" كان تركيًا/عثمانيًا؛ بتعريفات ذلك الزمان.

الهوية ليست عرقًا أو لونًا أو طبقةً أو دينًا أو جنسية، بل هي ثقافة تزداد خصوبتها حين تُسقى بمياه نهر تتعدّد روافده

ثم يبدو المشهد في الشارع المصري ذاته حقيقيًا، حين ازدحم المصريون في المقاهي يشجّعون فريق المغرب "العربي" في مباريات كأس العالم، وحين احتشدوا على الإنترنت، قبل أشهر يحتفون بالشهيد "المصري" محمد صلاح لما فعله بجنود جيش الاحتلال، ثأرًا للقدس "العربية".

الهوية، ليست عرقًا أو لونًا أو طبقةً أو دينًا أو حتى جنسية مكتوبة في جواز سفر، بل هي ثقافة جامعة، تزداد خصوبتها حين تُسقى بمياه نهر تتعدّد روافده. ولذا لم يكن غريبًا أن أقرأ، قبل أيام لصديقة "أرمنية" مصرية منشورًا على انستجرام تُبدي فيه غضبها على ما يجري من تشويه (رسمي) لمساجد آل البيت في قاهرة المعز، كما لم يكن غريبًا أن تحدّثني عاملة البدالة "الكردية"، ذات يوم عن أمّ كلثوم، واسماعيل ياسين، ولا أن لا تكتمل قهوتي الصباحية إلا مع صوت فيروز.

لا تصدّقوا صورة القميص المصري الصادمة، ولا العنصرية الشوفينية التي تغذيها اللجان الالكترونية على الانترنت.

لم يكفر العرب بعروبتهم كما قد يبدو من إجابات الشباب في بيروت في هذا المساء البعيد، بل كفروا بحكّامهم الذين أخفوا استبدادهم لنصف قرن وراء لافتات وشعارات وحدوية عروبية. ثم بات ورثة استبدادهم من الباحثين عن المكانة، والزعامة يتعيّشون على إثارة النعرات المحلية.

لم يكفر العرب بعروبتهم.

هل تابعتم احتجاجات الشارع الليبي على لقاء "مفترض" لمسؤولة ليبية بنظيرها الإسرائيلي؟

لم يدخل الليبيون يومًا حربًا مع الكيان الصهيوني، ولكنهم "فلسطينيو الهوى".. كيف؟ ببساطة، هذا معنى أن تكون عربيًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن