عشيّة الضربة الإسرائيلية/الأميركية لإيران، وعلى قناة "فوكس نيوز"، ظهر فجأةً رضا بهلوي (الثاني)؛ نجل الشاه محمد رضا بهلوي آخر ملوك الإمبراطورية الفارسية، والذي كانت الثورة الإسلامية الشعبية قد أطاحت به في فبراير/شباط 1979. كان ضيف الشاشة الأميركية واضحًا في دعوته الصريحة إلى الانقلاب على النظام الحاكم في إيران. كما كان، "كوريثٍ للشاهنشاه" واضحًا في نرجسيّته وميوله الاستبدادية حين قال على الشاشة إنه "لن يكون زعيمًا انتقاليًا... بل دائمًا".
تدشين حملة إعادة تصنيع "الشاهنشاه" بدأت في إسرائيل قبل عامَين
ما إن انتهيت من مشاهدة اللقاء التلفزيوني، الذي لم يكن مفاجئًا، حتى عدتُ لمشاهدةٍ ثانيةٍ لوثائقيّ "استقصائيّ" مهم، استغرق إعداده سنوات، وكان قد أهدانيه القارئ الكريم، والمُترجم المدقّق عادل فتحي، ويحمل اسم "Coup 53".
كما لم تكن الوقائع (التاريخيّة) التي قدّمها الوثائقي عفويةً، وإن بَدَت كذلك، لم يَبْدُ اللقاء التلفزيوني، الذي ذكّرني بالوثائقي عفويًا، إذ بدأ الرجل (الطامح إلى العرش) فورًا لقاءاته مع أعضاء فاعلين في الكونغرس، قبل أن يبدأ جولةً أوروبيةً يلتقي فيها سياسيين كبارًا مثل البريطانيين ديفيد كاميرون (David Cameron)، وبوريس جونسون (Boris Johnson)، ونايجل فاراج (Nigel Farage)، ويحرص على أن يضع صور هذه اللقاءات ضمن حملته الدعائية، التي تضمّنت مؤتمرًا صحافيًا في باريس؛ لا غيرها. وهي للمفارقة العاصمة الأوروبية ذاتها التي عاد منها آية الله الخميني ذات يوم إلى طهران بعد نجاح الثورة الإسلامية.
الحملة الإلكترونية المُمنهجة لتلميع "الشاه الصغير" وتصويره كبديلٍ جاهزٍ للنظام الإيراني، كشفت تفاصيلها منصّة تحقيقات "استخبارات المصادر المفتوحة" (EekadFacts)، في تقريرٍ معلوماتيّ يتتبّع خيوط الحملة ويكشف أدقَّ تفاصيلها من التضخيم الرقمي الإسرائيلي، ومجموعات التنسيق السرّية على "Telegram" التي تضمّ ناشطين أجانب وإيرانيين ينشرون بشكلٍ منسّقٍ بالفارسية والإنكليزية (التقرير كاملًا في هذا الرابط).
الموقف العلني للشاه الصغير من الدولة العبرية واستخباراتها لا يختلف عن الموقف الذي كان سرّيًا للشاهنشاه الكبير
قد يكون مثيرًا، ودالًّا بلا شك أنّ تدشين حملة إعادة تصنيع "الشاهنشاه" بدأت في إسرائيل، لا غيرها قبل عامَيْن، وتحديدًا في أبريل/نيسان 2023، عندما دعته وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية (لا غيرها) لزيارة الدولة العبرية. يومها، وبوضوحٍ تكشف عنه الكلمات، (كما صورة المنصة)، وقف بهلوي إلى جانب سيدة الاستخبارات الإسرائيلية جيلا غامليل (Gila Gamliel) ليقول: "أنا هنا لاستكشاف كيف يمكننا التعاون لمساعدة الشعب الإيراني في حملته من أجل الحرّية".
الموقف العلني للشاه الصغير من الدولة العبرية، واستخباراتها لا يختلف عن الموقف الذي كان سرّيًا للشاهنشاه الكبير، والذي كان أوّل من كشف عنه آية الله الخميني في خطابه الشهير (يونيو/حزيران 1963) والذي أدّى إلى اعتقاله، ثم اندلاع احتجاجاتٍ ضخمةٍ اضطرّت الشاه إلى إعلان الأحكام العُرفية، ثم نفي الخميني في نهاية المطاف.
التبايُن في الموقف من الصراع العربي - الإسرائيلي بين نظام الشاهنشاه ونظام الثورة الإسلامية كان شاسعًا في مرجعيته ومظاهره. رغبةً في تفادي الصدام مع مشاعر شعبه المُعادي لإسرائيل لأسبابٍ دينية، اختار شاه إيران أن يكون تحالفه الوثيق مع إسرائيل سريًّا، لمواجهة المدّ القومي (العربي/الناصري) في ستينيّات القرن الماضي. إلّا أنّ هذا التحالف انهار تمامًا بعد الثورة، يومها كان ياسر عرفات أول مسؤولٍ أجنبي يزور طهران، ويومها أيضًا أغلقت الثورة السفارة الإسرائيلية، بل وأعطت المبنى ذاته للفلسطينيين ليصبح سفارة فلسطين في طهران، في خطوةٍ رمزيةٍ لم ينسَها الإسرائيليون أبدًا.
هل يعمل الإسرائيليون أو الأميركيون (أو بالأحرى كلاهما) على تغيير النظام في إيران؟
لا أظنّ أنّ الإجابة محلّ نقاش، وإن تباينت الآراء حول التفاصيل والمواقيت. فعلها الأميركيون سابقًا بطريقةٍ دمويةٍ في تشيلي مع سلفادور أليندي (Salvador Allende - 1973) المنتخب ديموقراطيًا، وفعلوها في إيران ذاتِها (1953) مع محمد مصدّق؛ رئيس الوزراء الذي كان قد انتُخب ديموقراطيًا أيضًا، حين أقدم على تأميم صناعة النفط التي كان البريطانيون يُسيطرون عليها. يومها تحالفت الاستخبارات البريطانية (MI6) مع الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) لإسقاطه. وفي تفاصيل العملية الاستخباراتية الحقيرة التي سُمّيت "Operation Ajax" أنّ الشاه ذاته تواطأ مع الاستخبارات الغربيّة للإطاحة برئيس وزرائه المُنتخب. وفي التفاصيل المُخزية أيضًا أنّ الـCIA، تسهيلًا وتشجيعًا، أقدمت على رشوة شقيقة الشاه؛ السيدة أشرف بهلوي بمعطفٍ من فرو المنك (!). وكان مصدّق قد سبق له الاصطدام بالشاه وأسرته حين قام بموجب صلاحياته بتعزيز مؤسّسات الدولة السياسيّة عن طريق تقليص صلاحيات الأسرة المالكة (الوثائق الكاملة 275 صفحة لعملية الـ CIA في هذا الرابط).
قِصَر النظر الاستبدادي/الطائفي للنظام الإيراني لا ينفي أنّ لا مستفيد من إعادة تصنيع النظام البهلوي سوى إسرائيل
هل يعمل الإسرائيليون أو الأميركيون (أو بالأحرى كلاهما) على تغيير النظام في إيران؟
الإجابة نعرفها جميعًا، ولكن: متى، وكيف؟ ربّما كان هذا هو السؤال. إذ قد تكون حسابات الواقع، أو ربّما أولويات المرحلة قد أجبرت أولئك الجالسين في غرفهم السريّة على إرجاء خططهم للحظةٍ قد تكون أكثر مناسبة، إلّا أنّ هذا يظلّ في باب التفاصيل. كما يظلّ تغيير النظام ذاته في باب التفاصيل الكامنة فيما هو بالنسبة إلينا أكثر أهميةً و"استراتيجية"؛ خرائط شرق أوسطية جديدة تخلو من أي معارضة قائمة أو محتملة للهيمنة الإسرائيلية على المنطقة بأسرها. خرائط يعمل بعضنا بانتهازية (أو انهزامية) على المشاركة في رسم خطوطها، مُعتقدًا أن تقديمه القرابين سيوفّر له مكانةً، أو مكانًا في ساحة المعبد.
وبعد،
فلا أحد بوسعه أن يجادلَ أن نظام آيات الله نظام قمعي، ولكن هذا لا ينفي أبدًا أنّ نظام الشاهنشاه كان لا يقلّ استبدادًا وقمعًا. بل أكثر بالتأكيد. هل سمعتم عن "السافاك"؟
ولا أحد يمكنه أن ينكرَ أنّ مساندة النظام الإيراني لبشار الأسد ضدّ طموحات شعبه كان جريمةً "دمويةً" لا تُغتفر. ولكنّ الحقائق لا تنفي بعضها. فقِصَر النظر الاستبدادي/الطائفي للنظام الإيراني لا ينفي أبدًا حقيقة أنّ لا مستفيد من محاولة إعادة تصنيع النظام البهلوي سوى إسرائيل واستراتيجيّتها الشرق الأوسطية التي لا تخفى على أحد.
(خاص "عروبة 22")