صحافة

ما مستقبل النظام الإيراني بعد الحرب الأخيرة؟

مثنى عبدالله

المشاركة
ما مستقبل النظام الإيراني بعد الحرب الأخيرة؟

بداية لا بد من الإشارة إلى نقطة جوهرية يتسم بها النظام القائم في إيران، وهي أنه رغم الوصف المنطبق عليه بأنه نظام ديكتاتوري، حسب علم السياسة، لكنه في الحقيقة لا يشبه كل الأنظمة الديكتاتورية الأخرى. فنظام طهران هو فكرة عقائدية دينية ذروتها ولاية الفقيه.

ومن خلال تصريحات أركان النظام الإيراني سواء في بداية الثورة في عام 1979 وما بعدها وحتى اليوم، فإنهم يتفقون على أن النظام الإيراني نظام ثوري، له منظومة قيم متعلقة بالداخل، وأيضا بالسياسة الخارجية، هدفها تأمين الكرامة والعزة والرفعة للأمة الإيرانية، وتغيير وجه الشرق الأوسط، من خلال محاربة الصهيونية وطرد الإمبريالية من المنطقة، مضافا إليها تصدير الثورة إلى الدول المجاورة أولا، وبقية دول العالم ثانيا.

لكن المفارقة الكبرى هي أن هذه الفكرة التي يقوم عليها النظام الإيراني، كانت هي الضحية الأولى لحرب الاثني عشر يوما الأخيرة بين طهران وتل أبيب وواشنطن. إن النظام الإيراني واجه تحديا كبيرا قبل الحرب الأخيرة، وهو عجزه عن ممارسة طبيعته الأيديولوجية، بسبب تعثر الفكرة القائم عليها، وهزيمة مشروعه العقائدي التوسعي في المنطقة، المبني على عنوان إثني، والمتمثل بأفول أذرعه الميليشياوية في المنطقة، وسقوط حليفه الاستراتيجي نظام بشار الأسد.

ثم جاءت الضربة الأمريكية ـ الإسرائيلية في الداخل الإيراني مؤخرا، لتُعمّق جروح النظام والفكرة القائم عليها، ولتكشف حجم الهوّة بين سردية النظام حول قدراته العسكرية، والواقع الذي رآه الشعب الإيراني، وكذلك الخرق الاستخباراتي واسع النطاق، وعدم وجود سلاح جو إيراني. وعندما يضاف إلى هذه الإشكالية، عدم القدرة على تأمين الرفاهية والاستقرار والحياة الكريمة لمواطنيه، فإن التحدي سينتقل مباشرة من الإقليم إلى الداخل الإيراني.

حينذاك ستكون إيران في مواجهة سيناريوهات ثلاثة: إما تطور الديناميكيات الداخلية التي تُنهي هذا النظام بكامله وهذه مسألة وقت، أو أن النظام يجد نفسه مضطرا تحت الضغط الداخلي والخارجي معا، للقيام بعملية التطوير الذاتي من الداخل، فتتقدم الوجوه المرغوبة في الغرب فيه إلى الصفوف الأمامية لصنع القرار. وثالثا قد يصر التيار المتشدد على الاستمرار في النهج الحالي، مستندين إلى أن مصير النظام الإيراني سيكون مصير النظام الليبي نفسه في زمن الراحل القذافي، الذي على الرغم من تسليمه البرنامج النووي الليبي إلى السلطات الأمريكية، لكنهم أسقطوه بعد ثماني سنوات. وعندها سيقولون دعونا نسير على نهج زعيم كوريا الشمالية، الذي لم يأبه بالتهديدات الأمريكية ووصل إلى القنبلة النووية.

إن المراهنة على تغيير النظام بالقدرة الأمريكية نظرية بعيدة عن الواقع. فالأمريكيون ليسوا راغبين في فعل ذلك، بل هم يُفضّلون وجود نظام ضعيف في إيران بما يكفي لعمل تسوية، تضمن الانتهاء من الملفات الإيرانية الثلاثة وهي، المشروع النووي، زائدا القدرات الصاروخية الباليستية، زائدا الأذرع الميليشياوية في المنطقة. وهم يعتقدون أن ضعف النظام سيؤدي إلى ذهاب الإيرانيين إلى واشنطن لصنع اتفاق الضرورة، خاصة أن ترامب خيرهم بين السلام، حيث عودة الأمة الإيرانية عظيمة، كما قال، أو القوة الأمريكية الساحقة..

بين الاتفاق أو أن تبقى إيران ضعيفة وفي حالة عزلة. وهنا يجب الانتباه إلى البُعد الأيديولوجي والبُعد البراغماتي للنظام الإيراني في هذه المسألة، وليس كما يقول البعض إن طهران لا ترغب في الاتفاق مع واشنطن، خاصة أن إيران في ظل موازين القوى الإقليمية والدولية الحالية، لن تستطيع الاستمرار في برنامجها النووي، سواء بالقوة، أو بالتي هي أحسن. هذا قرار أمريكي، حيث كان ترامب واضحا جدا عندما قال، لن يكون لإيران قنبلة نووية، وكذلك الغرب يتفق على هذه النقطة أيضا ويحاجج الإيرانيين بالقول، حسنا إذا كنتم تدّعون بأنكم لا تريدون القنبلة النووية، وتقولون إن برنامجكم هدفه مدني لإنتاج الكهرباء وغيرها من الاستعمالات المدنية، وإن من حقكم التخصيب، فعلامكم تُخصّبون اليورانيوم بنسبة 60%، بينما إنتاج الكهرباء لا يتطلب سوى يورانيوم بنسبة تخصيب 5%؟

وعليه حتى لو قبلت أمريكا بالمشروع النووي الإيراني، فإن إسرائيل لن تقبل. كما أن الدول العربية وتركيا هي الأخرى ستتجه إلى البرامج النووية العسكرية، خاصة أن تركيا لديها برنامج نووي سلمي، والإمارات العربية ومصر والسعودية أيضا تسعى لامتلاك برنامج نووي كذلك. إن المُراهنة الإيرانية على التفاوض من أجل ربح الوقت لن تجدي نفعا مع دونالد ترامب، كما إن التفاوض بشروط الإيرانيين لن يمر بعد اليوم، فالعصر الأمريكي في ظل وجود ترامب في البيت الأبيض ليس فيه وقت إضافي للتفاوض. وإن وقف إطلاق النار في حرب الاثني عشر يوما كان بين إسرائيل وإيران، وليس بين طهران وواشنطن.

وعليه يجب أن يفهم النظام الإيراني بأن الوضع الراهن ليس وضع سلام، بل هو مجرد وقف لإطلاق النار. وإذا عادت الحرب بين الطرفين فلن تكون مجرياتها مثل الحرب الأخيرة إطلاقا، وهنا تظهر أمامنا وبصورة جلية مفارقة كبرى، وهي حالة متطرفة في بُعديها الإيراني والأمريكي. فترامب من الذين يريدون التفاوض حالا، وإعلان الصفقة غدا فهو رجل أعمال، بينما الإيرانيون دائما ما يُبشرون بما يسمونه ميزتهم في الصبر الاستراتيجي على الآخرين. لكن لو بحثنا عن صبرهم الاستراتيجي نجد أنه لم ينتج لهم يوما شيئا ذا فائدة. فقد رفعوا شعار الصبر الاستراتيجي في حربهم مع العراق في ثمانينيات القرن المنصرم، ورفضوا كل عروض السلام، لكنهم في الأخير تجرعوا كأس السم وقبلوا بوقف إطلاق النار.

وفي البرنامج النووي حدث المسار نفسه، حيث دخلوا في مفاوضات ماراثونية منذ عام 2003، مراهنين على الوقت وملل الطرف المقابل، فولد اتفاق مزقه ترامب في أول محطاته في البيت الأبيض، ثم أحرقه في حرب الـ12 يوما الأخيرة. أذن نحن اليوم أمام مدرستين متناقضتين تماما، هما المدرسة الإيرانية في التفاوض، والمدرسة الترامبية في التفاوض. والآن الموقف الأمريكي يتبلور ويرتفع أكثر، إلى أنه لم يعد لإيران خيارات أخرى.

بمعنى إما المفاوضات على شروط ترامب، وإما الوصول إلى النهاية، وهنا يجب التذكير بأن الأولوية المُطلقة للنظام الإيراني هي بقاء النظام على قيد الحياة، فهو هدف قائم بحد ذاته في العقيدة الإيرانية، وليس بالضرورة وسيلة لتحقيق أهداف معينة. وإذا ما انتهى ما يسمى (محور المقاومة)، وإذا ما انتفى مفهوم وحدة الساحات، وإذا ما خسرت طهران موارد بشرية واقتصادية وأصولا عسكرية في ساحات عربية أربع، فإن بقاء النظام هو قدس الأقداس بالنسبة لها، وقد تذهب للتفاوض مع الشيطان من أجل بقاء النظام.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن