في خضم التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران، وما تلاه من تدخل أمريكي غير مسبوق، بات السؤال الأبرز المطروح اليوم، أين اختفى اليورانيوم الإيراني المخصب؟ هذا التساؤل يثير جدلاً كبيراً بين الروايات الرسمية المتناقضة والتقييمات الاستخباراتية الحذرة والتقديرات الدولية القلقة.
في 22 حزيران/يونيو الماضي، شنت الولايات المتحدة غارات جوية مركزة استهدفت ثلاثة مواقع نووية إيرانية رئيسية هي: منشأة فوردو، ومنشأة نطنز، ومنشأة أصفهان. هذه المواقع تضم أبرز منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية، التي لطالما شكلت محور الخلاف مع الغرب. وأعلنت واشنطن حينها أن الضربات أبادت قدرات إيران النووية بشكل كامل، حسب تعبير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي قال: "الضربات الأمريكية أبادت تماما المنشآت النووية الإيرانية والمخزون الإيراني من اليورانيوم عالي التخصيب". وبالمثل أيد وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث هذا الموقف قائلا، إن المواقع "دُمّرت".
اللافت في الأمر كانت تصريحات بنيامين نتنياهو، فأثناء زيارته الأخيرة لواشنطن، قال في مقابلة مع قناة "فوكس بيزنس" يوم 9 تموز/يوليو الجاري، إن إسرائيل لا تزال قلقة بشأن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب. وعندما سُئل عما إذا كانت إيران قد أخفت أيًا من المادة، أجاب: "نعتقد أننا نعرف أين هو، إنه مدفون تحت الأرض إلى حد ما، وليس لدينا معلومات مناقضة لذلك". وبشأن الحملة الإسرائيلية ضد إيران، قال نتنياهو "الشيء الوحيد الذي لم نتعامل معه وكنا نعرف أننا لم نتعامل معه هو اليورانيوم المخصب". وأضاف: "يجب أن يكون واضحا لهم، وأعتقد أنه أصبح كذلك، أنهم لن يحصلوا على هذا اليورانيوم المخصب".
وأشار مطمئنا جمهوره الإسرائيلي: "اليورانيوم الإيراني المخصب ليس كافيا لصنع قنابل ذرية، إنه مكون ضروري، لكنه غير كافٍ". وأكد أن إسرائيل "تريد أن يكون هذا المكون الضروري أيضا تحت السيطرة" وأضاف "أعتقد أن الإيرانيين يفهمون أن ما فعلته الولايات المتحدة وإسرائيل مرة يمكن أن تفعلانه مرتين وثلاث مرات". وعندما سألته "فوكس بزنس" لماذا ينبغي الوثوق بأن إيران لن تحاول تجديد جهودها النووية، رد نتنياهو: "لأنهم خائفون". كذلك صرح مسؤول إسرائيلي كبير لوكالة "رويترز" – طلب عدم الكشف عن اسمه – بالقول "إن المخزونات – نحو 400 كغم (880 رطلاً) من اليورانيوم المخصب حتى 60% – لم تتحرك. اليورانيوم المخصب الإيراني لا يزال موجودا في المواقع الثلاثة، ولم يتم نقله قبل الضربات أو بعدها. وأضاف: "اليورانيوم المخصب موزع بين فوردو، ونطنز، وأصفهان، ولم ينقل. وقد يتمكن الإيرانيون من الوصول إلى المخزون في أصفهان، لكنه سيكون جهدا صعبا للغاية". وأوضح أن معظم اليورانيوم مدفون بعمق في أصفهان، وهو ما يجعل استخراجه معقدا وخطيرا.
كما صرح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، يوم 9 يوليو الجاري قائلاً: "على إسرائيل أن تمنع إيران من استعادة قدراتها السابقة للحرب". وأضاف: "نحن بحاجة إلى صياغة برنامج إنفاذ لمنع إيران من إحياء القدرات التي كانت لديها قبل ذلك"، وتابع: "الإيرانيون سيحاولون بكل طريقة ممكنة استخلاص الدروس والتعافي. العدو يتعلم ويستعد، وتحدينا هو أن نعزز قدراتنا حتى لا نفاجأ". غير أن تقييمات استخباراتية أمريكية وأوروبية بدت أكثر حذرا، فقد أشار تقرير أولي لوكالة استخبارات الدفاع الأمريكية إلى أن الضربات "ألحقت أضرارا جسيمة" بالمواقع الثلاثة، لكنها لم تدمرها بالكامل.
وفي مقابلة مع قناة (LCI) الفرنسية، قال نيكولا ليرنر رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي (DGSE)، أن الضربات "أخرت البرنامج النووي الإيراني عدة أشهر"، لكنه حذر من أن تحديد مصير اليورانيوم المخصب بدقة ما زال مستحيلا في ظل غياب مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن إيران. وأضاف: "لدينا مؤشرات على مكانه، لكن لا يمكننا أن نكون على يقين، طالما أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تستأنف عملها. لن تكون لدينا القدرة على تتبعه بدقة من دون الوكالة". وأوضح "كمية اليورانيوم المخصب – المقدرة بحوالي 450 كغم – ربما تضرر جزء صغير منها فقط، وأن البقية ما زالت في يد النظام الإيراني". وفي تصريح آخر قال ليرنر: "كل مراحل البرنامج النووي – من التخصيب، إلى تصميم الرأس الحربي، إلى تركيبه على صاروخ – تأثرت بشدة، لكن من المهم أن نظل حذرين في تقييمنا".
كما أشار المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، إلى أن المنشآت الثلاث "دُمّرت إلى حد كبير"، لكنه أوضح أيضا: "بصراحة، لا يمكن القول إن كل شيء قد اختفى، ولا يوجد شيء هناك. إذا أرادوا، يمكنهم البدء من جديد". ما يزيد الغموض حول مصير اليورانيوم المخصب هو التصريحات المتضاربة بشأن مدى فعالية القنابل الأمريكية الخارقة للتحصينات. فقد قال مسؤولان من وكالة خفض التهديدات الدفاعية الأمريكية، التي صممت قنابل GBU-57 خصيصا لضرب المنشآت الإيرانية، إنهما لا يعلمان بعد ما إذا كانت القنابل قد اخترقت الأعماق المستهدفة. ومع أن ترامب يصر على أن "المواقع دُمّرت"، فإن هذه التصريحات تشير إلى أن تقييم الأضرار لم يكتمل، وربما لم تحقق القنابل كل أهدافها. وبناءً على ما ذكره ليرنر وغروسي، فإن تقييم الوضع بدقة يحتاج إلى عودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وحتى الآن، إيران لم تسمح لهم بالدخول.
قال غروسي في تصريح رسمي وبوضوح؛ "تقييم الضرر الكامل يتوقف على سماح إيران بدخول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية للمواقع النووية الايرانية مجددا". من جانبها اتهمت طهران الوكالة بمشاركة بيانات حساسة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وبالفشل في إدانة الضربات الجوية التي وقعت الشهر الماضي على المواقع النووية الإيرانية. وجاءت إجابة ايران الرسمية على لسان رئيس الجمهورية بيزشكيان الذي قال، إن على الوكالة أن تتخلى عن "معاييرها المزدوجة" إذا أرادت من طهران استئناف التعاون، حسبما نقلته وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية.
وفي لقائه مع الإعلامي الأمريكي المحافظ تاكر كارلسون، قال الرئيس بيزشكيان، إن الضربات الأمريكية ألحقت دمارا بالغا بالمنشآت النووية الإيرانية، لدرجة أن السلطات لم تتمكن حتى الآن من الوصول إليها لتقييم الضرر. وأضاف: "نحن مستعدون للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن للأسف، ونتيجة للهجمات غير القانونية التي شنتها الولايات المتحدة على مراكزنا النووية، فإن العديد من المعدات والمنشآت تضررت بشدة". ونقلت وسائل الإعلام الرسمية عن بيزشكيان قوله لرئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا عبر الهاتف: "إن استمرار تعاون إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية منوط بتصحيح الأخيرة لمعاييرها المزدوجة في ما يخص الملف النووي الايراني". في الوقت نفسه، أشار مصدر دبلوماسي فرنسي إلى أن القوى الأوروبية قد تعيد فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق نووي جديد يضمن المصالح الأمنية الأوروبية.
يبدو أن اليورانيوم المخصب الإيراني لم يختفِ، بل ما زال موجودا – وإن كان مدفونا تحت الأنقاض – في مواقع مثل أصفهان وفوردو. لكن الوصول إليه أو إخراجه سيكون معقدا ويحتاج إلى جهد كبير. وبينما يصر الرئيس ترامب على أن الضربات "أبادت" مواقع البرنامج النووي، تبدو تقييمات المسؤولين الإسرائيليين والفرنسيين والدوليين أكثر تحفظا، وتدعو إلى الحذر حتى عودة المفتشين الدوليين. وفي هذا السياق، يظل الغموض سيد الموقف.
فاليورانيوم الايراني المخصب موجود – على الأرجح – لكن لا أحد يستطيع الجزم بمكانه الدقيق أو حالته الراهنة، ولا مدى قدرة إيران على استعادته أو استئناف برنامجها النووي في المستقبل القريب. والموقف الرسمي اليوم يتمثل في أن أنظار الجميع تتجه إلى ما إذا كانت إيران ستسمح بعودة المفتشين، أم ستختار مواصلة برنامجها النووي سرًا. إلى ذلك الحين، سيبقى سؤال، أين اختفى اليورانيوم الإيراني المخصب؟ مفتوحا دون إجابة حاسمة.
(القدس العربي)