لَمْ يَقْتَصِرِ التَّغْييرُ على إِنْهاءِ نِظامِ الْأَسَدِ، بَلِ امْتَدَّ في المَسارِ الثَّانِي نحو تَقْديمِ نَموذَجٍ لِسُلْطَةٍ واحِدَةٍ مِنْ جَماعاتِ الإِسْلامِ السِّياسيِّ المُسَلَّحِ تُمَثِّلُها "هَيْئَةُ تَحْريرِ الشّامِ" التي قَادَتْ تَحالُفًا مِنْ جَماعاتٍ تَنْتَمي إلى التَّيارِ ذاتِهِ، بَعْدَ أَنْ قَدَّمَتْ نَموذَجًا مَحَليًّا مَحْدودًا لِلْحُكْمِ في مَدينَةِ إِدْلِبَ شَمالَ غَرْبِ سوريا، جَسَّدَ مِثالًا بَسيطًا في إِدارَةِ مُجْتَمَعٍ صَغيرٍ مُحاطٍ بِظُروفٍ داخِليةٍ وَخارِجِيَّةٍ صَعْبَةٍ، قَبْلَ أَنْ تَنْتَقِلَ إلى دِمَشْقَ، وَتَتَوَلّى مِنْها إِدارَةَ بَلَدٍ صَعْبٍ وَسْطَ ظُروفٍ شَديدَةِ التَّعْقيدِ في طَبيعَتِهِ وَواقِعِهِ وَظُروفِهِ الدّاخِليةِ - الخارِجِيَّةِ التي صارَ إِلَيْها بَعْدَ عَقْدٍ وَنِصْفٍ مِنْ سَنَواتِ حَرْبٍ في سوريا وَحَوْلَها.
ضعف سياسات الحكومة في استعادة وحدة الأراضي وتأخُّر الدخول في مرحلة العدالة الانتقالية
كانَ طَريقُ "هَيْئَةِ تَحْريرِ الشّامِ" وَحُلَفائِها في الوُصولِ إلى دِمَشْقَ وَبَسْطِ السُّلْطَةِ عَلَيْها بَعيدَ الاحْتِمال، وَصَعْبَ التَّحَقُّق، بَلْ كادَ يَكونُ مُسْتَحيلًا، لَكِنَّهُ حَصَلَ وَبِأَقَلِّ قَدْرٍ من الخَسائِر، وَلَئِنْ كانَ حُصولُهُ نَتيجَةَ تَوافُقاتٍ وَاتِّفاقاتٍ بَيْنَ أَطْرافٍ وَقُوًى ذاتِ وُجودٍ وَتَأْثيرٍ مُخْتَلِفٍ وَمُتَناقِضٍ في القَضِيَّةِ السّورِيَّةِ وَاحْتِمالاتِها، فَإِنَّ الأَداءَ العَمَلي العَسْكَرِيَّ وَالسِّياسِيَّ لِتَحالُفِ "غُرْفَةِ رَدْعِ العُدْوانِ"، أَكْمَلَ فُرْصَةَ الوُصولِ إلى دِمَشْقَ، وَفَرَضَ السُّلْطَةَ الجَديدَةَ فيها خِلافًا لِأَكْثَرِ التَّوَقُّعاتِ، مِمّا شَكَّلَ نَجاحًا خارِجَ التَّوَقُّعاتِ في عِلاجِ الصِّراعِ في سوريا وَحَوْلَها، وَانْطِلاقًا مِنْ هَذِهِ النُّقْطَةِ، صارَ من المُمْكِنِ التَّدْقيقُ في نَجاحاتِ وَارْتِباكاتِ السَّنَةِ الأولى مِنْ عُمْرِ النِّظامِ الجَديدِ وَسِياساتِه.
كانَتْ أَوَّلُ خُطُواتِ النِّظامِ الجَديدِ تَأْكيدَ تَمَيُّزِهِ عَنْ نِظامِ الْأَسَدِ المُنْهار. إِذْ سَمَحَ بِتَواصُلِ انْهِيارِ مُؤَسَّساتِ النِّظامِ كافَّةً وَلا سِيَّما العَسْكَرِيَّةِ وَالأَمْنِيَّةِ، وَتَجَنَّبَ في هَذا السِّياقِ المُواجَهَةَ مَعَ ما تَبَقَّى قائِمًا وَمُتَماسِكًا مِنْها، خَاصَّةً أَنَّهُ سَهَّلَ اسْتِمْرارَ تَوَجُّهِ عَناصِرِها بِاتِّجاهِ حَواضِنِها خاصَّةً نَحْوَ السّاحِلِ وَالمَناطِقِ الوُسْطى، ثُمَّ جَمَّدَ عَمَلَ المُؤَسَّساتِ العامَّةِ كُلّيًّا أَوْ بِصورَةٍ جُزْئِيَّةٍ، وَسَرَّحَ مِئاتِ آَلافِ العامِلينَ في أَجْهِزَةِ الدَّوْلَةِ، وَفَرَضَ حُضورَ قِياداتِهِ وَأَجْهِزَتِهِ وَتَحَكُّمَها بِمَفاصِلِ الحَياةِ العامَّةِ وَلا سِيَّما القِطاعاتِ الحَيَوِيَّةِ، بَعْدَ لُجوئِهِ إلى تَكْليفِ حُكومَةِ الهَيْئَةِ القائِمَةِ في إِدْلِبَ بِمُهِمَّةِ إِدارَةِ البِلادِ بِاعْتِبارِها كَما قيلَ "إِدارَةً ناجِحَةً وَمَشْهودًا لَها بِمُعالَجَةِ مُهِمّاتٍ حَسّاسَةٍ في تَجْرِبَةِ إِدْلِب".
غَيْرَ أَنَّ تَجْرِبَةَ حُكومَةِ إِدْلِب، أَثْبَتَتْ بِصورَةٍ سَريعَةٍ عَدَمَ قُدْرَتِها على إِدارَةِ البِلادِ بِما فيها مِنْ تَحَدِّياتٍ وَمِلَفّاتٍ وَمُهِمّاتٍ مُعَقَّدَةٍ، تَتَجاوَزُ حَجْمَ وَنَوْعِيّاتِ تَجْرِبَةِ إِدْلِب، فَتَمَّ تَشْكيلُ حُكومَةٍ جَديدَةٍ بِرِئاسَةِ الرَّئيسِ أَحْمَد الشَّرْع، أُسْنِدَتْ وِزاراتُها الرَّئيسِيَّةُ إلى نُواةٍ صُلْبَةٍ من "الهَيْئَة"، وَتَمَّ إِشْراكُ أَعْضاءٍ فيها يَنْتَمونَ إلى أَطْيافٍ سورِيَّةٍ أُخْرى، ثُمَّ أُضيفَ إلى هَذا التَّحَوُّلِ القِيامُ بِخُطُواتٍ توسِّعُ الإِطارَ السِّياسِيَّ لِلسُّلْطَةِ الحاكِمَةِ، كانَ بَيْنَها إِصْدارُ إِعْلانٍ دُسْتوريٍّ، وَالتَّوَجُّهُ نَحْوَ تَشْكيلِ مَجْلِسٍ لِلشَّعْب.
سياسات الحكومة وممارساتها في المستويين الاقتصادي والاجتماعي كرّست ارتباكات فادحة
وَغالِبًا ما تَمَّ النَّظَرُ إلى هَذِهِ الخُطُواتِ، أَنَّها لا تَعْكِسُ تَحَوُّلًا جَوْهَرِيًا إِزاءَ ما هُوَ مَطْلوبٌ، وَإِنْ كانَتْ تُمَثِّلُ حَدًّا أَدْنى مِنْ تَحَوُّلٍ في فَهْمِ وَتَوَجُّهاتِ السُّلْطَةِ الجَديدَةِ في تَعامُلِها مَعَ مِلَفّاتِ السِّياسَةِ الدّاخِليةِ، التي عانَتْ مِنْ تَرَدِّياتٍ كَبيرَةٍ في الكَثيرِ مِنْ مَساراتِها في المُسْتَوَياتِ السِّياسِيَّةِ وَالاقْتِصادِيَّةِ وَالاجْتِماعِيَّة. كانَ بَيْنَها على سَبيلِ المِثالِ ضَعْفُ سِياساتِ الحُكومَةِ في اسْتِعادَةِ وَحْدَةِ الأَراضي السّورِيَّةِ على الرَّغْمِ مِنْ مُرورِ أَشْهُرٍ كَثيرَةٍ على اتِّفاقِ انْضِمامِ "قَسَد" في شَمالِ شَرْقِ البِلادِ إلى العَهْدِ الجَديدِ، بَلِ الأَوْضاعُ ساءَتْ في هَذا المَجالِ بَعْدَ الأَحْداثِ التي جَرَتْ في السّاحِلِ وَفي مُحافَظَةِ السُّوَيْداءِ في جَنوبِ البِلادِ، إِضافَةً إلى تَأَخُّرِ السُّلْطَةِ عَنِ الدُّخولِ في مَرْحَلَةِ العَدالَةِ الانْتِقالِيَّةِ وَمِلَفّاتِها الحَسّاسَةِ، وَضَعْفِ تَواصُلِ السُّلْطَةِ مَعَ الجَماعاتِ وَالشَّخْصِيّاتِ السِّياسِيَّةِ بِما فيها المَحْسوبَةُ على المُعارَضَةِ لِنِظامِ الْأَسَدِ، وَإِظْهارِ تَشَدُّدٍ مُبَطَّنٍ حِيالَ ظُهورِ تَشْكيلاتٍ سِياسِيَّةٍ، وَتَدَخُّلِها المُباشِرِ في تَرْتيبِ أَوْضاعِ التَّشْكيلاتِ النِّقابِيَّةِ وَمُنَظَّماتِ المُجْتَمَعِ المَدَنيّ.
وَكَرَّسَتْ سِياساتُ الحُكومَةِ وَمُمارَساتُها في المُسْتَوَيَيْنِ الاقْتِصاديِّ والاجْتِماعيِّ ارْتِباكاتٍ فادِحَةً وَسْطَ التَأَخُّرِ في تَشْغيلِ القِطاعاتِ الإِنْتاجِيَّةِ، وَالتَّرْكيزِ على القِطاعِ التِّجارِيِّ وَخَاصَّةً اسْتيرادَ السِّلَعِ الاسْتِهْلاكِيَّةِ مِثْلَ السَّياراتِ المُسْتَهْلَكَةِ، وَاسْتيرادَ مُنْتَجاتٍ غِذائِيَّةٍ مُنافِسَةٍ لِلْمُنْتَجاتِ المَحَلِّيَّةِ انْعَكَسَتْ سَلْبًا على المُنْتِجينَ السّورِيّينَ الذين تَتَّجِهُ أَوْضاعُهُمْ مَعَ شُرَكائِهِمْ من المُسْتَهْلِكينَ إلى تَدَهُوُرٍ مُتَزايِدٍ مَعَ ارْتِفاعِ أَسْعارِ الكَهْرَباءِ بِصورَةٍ كَبيرَة. كَما أَنَّ سِياسَةَ الإِعْمارِ العِقاريِّ سارَتْ في اتِّجاهاتٍ غَيْرِ شَعْبِيَّةٍ، حَيْثُ تَمَّ التَّرْكيزُ فيها على البِناءِ السَّكَنيِّ وَالتِّجارِيِّ لِلْأَغْنِياءِ في وَقْتٍ كانَ المَطْلوبُ التَّرْكيزَ على احْتِياجاتِ القِطاعاتِ الشَّعْبِيَّة.
لَقَدْ أَدَّتْ عَمَلياتُ التَّسْريحِ الواسِعِ لِلْعامِلينَ في الدَّوْلَةِ وَالمُؤَسَّساتِ التابِعَةِ لَها، وَقِسْمٌ رَئِيسٌ من السِّياساتِ الاقْتِصادِيَّةِ، إلى تَفاقُمِ البَطالَةِ وَالفَقْرِ بِصورَةٍ غَيْرِ مَسْبوقَةٍ، لَخَّصَتْها تَقاريرُ دَوْلِيَّةٌ بِالقَوْلِ إِنَّ الفَقْرَ زادَ مُعَدَّلُهُ عَنْ 90 بِالمائَةِ مِنْ عُمومِ السّورِيّينَ، مِمّا يَتَطَلَّبُ سِياسَةَ إِنْماءٍ جِدِّيَّةٍ لِتَجاوُزِ وَقائِعِ التَّدَهْوُرِ الاجْتِماعيّ.
معاناة سوريا والسوريين قائمة والانفراجات التي تحققت ما زالت أقل مما كان يمكن أن يكون
وَعلى الرَّغْمِ مِما تُسَبِّبُهُ ارْتِباكاتُ السِّياسَةِ الدّاخِلِيَّةِ مِنْ آثارٍ سَيِّئَةٍ في حَياةِ السّورِيّينَ، فَإِنَّ الأَكْثَرِيَّةَ تُراهِنُ على تَغْييراتٍ نَحْوَ الأَفْضَلِ في مُعالَجَةِ الارْتِباكاتِ، وَهَذا يَعودُ لأسْبابٍ عِدَّةٍ أَبْرَزُها رَغْبَةُ السّورِيّينَ بِالأَفْضَلِ بَعْدَ طولِ مُعاناةٍ، وَالتي تَتَوازى مَعَ التَّطَوُّراتِ الإِيجابِيَّةِ المُحيطَةِ بِالسِّياسَةِ الخارِجِيَّةِ في انْفِتاحِها وَعَلاقاتِها مع المُحيطِ الإِقْليميِّ وَالدَّوْليّ، التي تُغَذّي الخَلاصَ السّورِيَّ من العُقوباتِ، وَتَفْتَحُ البابَ نَحْوَ إِعادَةِ إِعْمارِ سوريا وَعَوْدَةِ المُهَجَّرينَ وَلا سِيَّما مِنْ دُوَلِ الجِوار.
خُلاصَةُ القَوْلِ في مُجْرَياتِ وَتَطَوُّراتِ العامِ السّوريِّ الأَوَّلِ بَعْدَ سُقوطِ نِظامِ الْأَسَدِ وَوِلادَةِ النِّظامِ الجَديد، إِنَّ مُعاناةَ سوريا وَالسّورِيّينَ قائِمَةٌ في وَاقِعِهِمِ السِّياسيِّ وَالاقْتِصاديِّ/الاجْتِماعيِّ، وَإِنَّ الانْفِراجاتِ التي تَحَقَّقَتْ ما زالَتْ أَقَلَّ مِمّا كانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ، لَوْ أَنَّ سِياساتٍ تَشارُكِيَّةً تَمَّ اتِّباعُها بَيْنَ السُّلْطَةِ الجَديدَةِ وَعُمومِ السورِيّينَ، وَهُوَ أَمْرٌ لا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ عاجِلًا أَوْ آجِلًا، لِأَنَّهُ الخِيارُ الأَفْضَلُ، إِضافَةً إلى أَنَّهُ مَطْلَبٌ مَطْروحٌ مِنْ جانِبِ أَكْثَرِ السّورِيّين، وَجَرى التَّرْكيزُ عَلَيْهِ في كُلِّ الحِراكِ السّورِيِّ مَعَ المُحيطِ الإِقْليميِّ وَالدَّوْليِّ في العامِ المُنْصَرِم.
(خاص "عروبة 22")

