بصمات

التَّعَدُّدِيَّةُ وَالأَنا المُحاوِرَة!

لَمَّا كَانَتِ التَّعَدُّدِيَّةُ تَتَأَسَّسُ على الِاعْتِرافِ المُتَبادَلِ بَيْنَ الذَّواتِ الفاعِلَةِ، بِحَيْثُ يَكونُ الشُّعورُ بِالِاشْتِراكِ في صُنْعِ القَرارِ فِعْلًا إِبْداعِيًّا قائِمًا على تَنْظيمِ بُنْيَةِ الِاخْتِلافِ الحُرِّ في تَوْليدِ الفَهْمِ، فَإِنَّ إِبْطالَ مَفاعِيلِ الصِّراعِ المُمْكِنِ بِسَبَبِ الوَضْعِيَّةِ المُتَنَوِّعَةِ أَوِ المُخْتَلِفَةِ لِلنّاسِ في المُجْتَمَعِ، هُوَ الهَدَفُ الرَّئيسُِ من التَّفْكيرِ في هَذا المَفْهومِ الأَخْلاقيِّ وَالأَنْطولوجيِّ وَالسِّياسيِّ لِتَحْقيقِ الِاسْتِفادَةِ من التَّنَوُّعِ الفِكْريِّ الرَّاهِنِ وَتَحْويلِهِ إلى قُوَّةٍ حَضارِيَّةٍ لا تَسْتَعْصي بِسَبَبِ التَّضْييقِ المُفْتَعَلِ على الأَثَرِ الهُوِيَّاتيِّ في كُلِّ شَخْص.

التَّعَدُّدِيَّةُ وَالأَنا المُحاوِرَة!

قُلنا التَّضْييقُ المُفْتَعَلُ في وَصْفِنا الشُّعورَ بِالهُوِيَّةِ الفَرْدِيَّةِ، لِأَنَّ الكَلامَ على التَّعَدُّدِيَّةِ في واقِعِنا لَمَّا يَتَجَلّى بَعْدُ في بُنًى مُؤَسَّساتِيَّةٍ ضامِنَةٍ لِلعَيْشِ التَّعَدُّديِّ نَفْسِه. فَلا يُمْكِنُنا بَعْدُ التَّحَدُّثُ عَنْ مَشْروعٍ عَرَبيٍّ قائِمٍ على الفَهْمِ التَّعَدُّديِّ لِلواقِعِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ غِيابِ التَّأْسيسِ الحَقيقيِّ لِخِطابٍ عَمَلانيٍّ يَنْقُلُ المَفْهومَ مِنْ عَشْوائِيَّةِ الخِطابِ اليَوْميِّ العابِرِ إلى تَبْئِيَةِ القاعِدَةِ التَّطْبيقِيَّةِ التي يَجْري فيها. فَنَحْنُ ما زِلنا في مَرْحَلَةِ اسْتيرَادِ المَعاني لِهَذا المَفْهومِ، إِذْ نَرى انْشِغالاتٍ سَطْحِيَّةً في تَداوُلِ المَشاكِلِ الحَقيقيَّةِ التي يُعانِي مِنْها مُجْتَمَعُنا، مِنْ ثُنائِيّاتٍ ضِدِّيَّةٍ قَاتِلَة.

هَذا الِاسْتِخْفافُ في مُعايَنَةِ مَفْهومِ التَّعَدُّدِيَّةِ يَحْجُبُ إِمْكانِيَّةَ تَداوُلِ الخِطابِ التَّفاعُليِّ بَيْنَ النّاسِ، وَالعَيْشَ الحَقيقِيَّ لِلمُشْتَرَكِ الثَّقافيِّ وَالمَعْرِفِيّ. فَبَدَلَ البَقاءِ رَهِينَةَ القَبولِ السَّلبيِّ بِالآخَرِ، وَاعْتِبارِ أَيِّ مُحاوَرَةٍ في سَبيلِ الِاتِّفاقِ تَنازُلًا لِهَذا الآخَرِ المَوْجودِ، نَرى ضَرورَةَ التَّسْويغِ لِمَفْهومِ التَّعَدُّدِيَّةِ على أَنَّهُ مَشْروعٌ يَحْتاجُ إلى إِنْماءٍ جَذْرِيّ. هَذا الإِنْماءُ هُوَ عَمَلٌ ثَوْريٌّ مَقْصودٌ مِنْ شَأْنِهِ التَّأْسيسُ لِبُنْيَةٍ مُجْتَمَعِيَّةٍ تَعَدُّدِيَّةٍ لا تَفْرِضُها قُوَّةُ السُّلطَةِ، بَل تُنْتِجُها قُوَّةُ الفِكْرَةِ المَعِيشَة.

علينا تعويد الذات على الاستماع الحُرّ للآخر قبل الحُكم عليه

وَمِنْ أَجْلِ الخُروجِ من التَّعَدُّدِيَّةِ المُتَوَتِّرَةِ في وَعْيِنا، تِلكَ المُؤَسَّسَةِ على أُحادِيَّةِ الحَقِّ وَالهُوِيَّةِ وَالرَّأْيِ، عَلَيْنا اسْتِحْضارُ الشَّرْطِ الفَلسَفيِّ لِفَهْمِ التَّعَدُّدِ عَيْنِهِ، وَهُوَ تَعْويدُ الذّاتِ على الِاسْتِماعِ الحُرِّ لِلآخَرِ قَبْلَ الحُكْمِ عَلَيْهِ حُكْمًا مُطْلَقًا جازِمًا يَجْتَزِئُ الفَهْمَ وَيَنْتَقِصُ مِنْ قيمَةِ هَذا الآخَرِ وَمِنْ حُضورِهِ الواقِعِيّ. وَبِالمُناسَبَةِ، إِنَّ مُمارَسَةَ هَذا القَمْعِ العَلَنيِّ على الآخَرِ، هِيَ في الوَقْتِ نَفْسِهِ قَمْعٌ لِلذّاتِ مِنْ دونِ وَعْيٍ لِخُطورَةِ هَذا الفِعْلِ على المَدَيَيْنِ القَريبِ وَالبَعيد. ذَلِكَ أَنَّ رَفْضَكَ لِلآخَرِ سَيَزْرَعُ عِنْدَهُ بِذْرَةَ التَّفْكيرِ بِالضِّدِّيَّةِ، وَسَتَنْشَأُ بَيْنَكُمَا تَفاعُلِيَّةٌ سَلبِيَّةٌ تُمَهِّدُ لِإِشْغالِ الزَّمانِ الرّاهِنِ بِعَيْشِ اسْتِقْطاباتٍ حادَّةٍ وَثُنائِيّاتٍ مُفْتَعَلَةٍ، لا حاجَةَ في الفِكْرِ إلى مُعايَنَتِها بِانْفِعالٍ وَفَوْضى.

الهُوِيَّةُ العَرَبِيَّةُ اليَوْمَ تَقومُ على حَيْثِيَّةٍ تَعَدُّدِيَّةٍ تُبْرِزُ تَداخُلًا في الِانْتِماءاتِ، بِحَيْثُ إِنَّ اسْتِحْضارَ هَذا المَفْهومِ الآنَ في ذِهْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنّا يُغْرِقُنا في جَمْعِ مَنْظومَةٍ من العَناصِرِ المُشَكِّلَةِ لِلذِّهْنِيَّةِ الرّاهِنَة. تَتَشَكَّلُ الشَّخْصِيَّةُ الفَرْدِيَّةُ اليَوْمَ من عَناصِرَ تاريخِيَّةٍ فاعِلَةٍ وَعَناصِرَ حاضِرَةٍ مُحَفِّزَةٍ، فَنَرى انْجِماعًا بَيْنَ الدِّينِ وَالطّائِفَةِ وَالإِثْنِيَّةِ وَالقَوْمِيَّةِ وَالتُّراثِ وَالحَداثَةِ وَالدَّوْلَةِ وَالجُغْرافْيا وَغَيْرِ ذَلِكَ من المُنْطَلَقاتِ النَّظَرِيَّةِ المُكَوِّنَةِ، تَتَفاعَلُ سَلبًا في تَأْسيسِ ثُنائِيّاتٍ اعْتِقادِيَّةٍ قاتِلَةٍ في أَذْهانِ الفِئاتِ الِاجْتِماعِيَّةِ وَالجَماعاتِ النَّشِطَة. وَالمُشْكِلَةُ لَيْسَتْ في هَذا الغِنى الحَضاريِّ المُسْتَحْضَرِ في الوَعْيِ العَرَبيِّ الرّاهِنِ، بَلْ في ضَعْفِ حُضورِ فِكْرَةِ الِاعْتِرافِ في بُنْيَةِ المُؤَسَّساتِ المُشَكِّلَةِ لِلمُجْتَمَعِ وَالدَّوْلَة. إِنَّ غِيابَ التَّنْظيمِ لِعَناصِرِ الِاخْتِلافِ، بِحَيْثُ تَكونُ مَصْدَرَ قُوَّةٍ ثَقافِيََّةٍ فاعِلَةٍ، هُوَ الذي يُحيلُها إلى مَصْدَرِ صِراعٍ دائِم. فَهُناكَ هَجْسٌ دائِمٌ حَوْلَ ثُنائِيّاتِ السُّنَّةِ/الشّيعَةِ، نَحْنُ/الغَرْبِ، الرَّجُلِ/المَرْأَةِ، العُروبَةِ/الإِثْنِيّاتِ، الدَّوْلَةِ/المُجْتَمَع.

التعددية على المستوى المعرفي هي تفكيكٌ لذهنية الإلغاء في وجدان كلّ واحد منا

كُلُّ هَذِهِ الإِشْكالِيّاتِ خاضِعَةٌ لِسُلطاتٍ مَرْكَزِيَّةٍ تَفْرِضُ هَيْمَنَةَ خِطابِهَا على كُلِّ الخِطاباتِ، بِحَيْثُ تَنْسَحِبُ فاعِلِيَّةُ الهَيْمَنَةِ على حَيْثِيَّةِ السَّيْطَرَةِ الحَقيقِيَّةِ داخِلَ المُجْتَمَعِ، فَيُصْبِحُ الكَلامُ عَنِ التَّعَدُّدِ وَالحِوارِ خالِيًا مِنْ مَضامينَ مُؤَثِّرَةٍ في أَرْضِ الواقِع. مِنْ هُنا عَلَيْنا اسْتيعَابُ التَّعَدُّدِيَّةِ بِوَصْفِها مَبْدَأً يَقومُ على بُنْيَةٍ مَعْرِفيةٍ وُجودِيَّةٍ أَخْلاقِيَّةٍ مَعِيشَة. إِذْ لا يُمْكِنُ تَخَطّي فِكْرَةِ أَنَّ المُجْتَمَعَ الإِنْسانِيَّ لا يَقومُ سِوى على هَذِهِ المَنْظومَةِ الجامِعَةِ لِلذَّواتِ وَالهُوِيّاتِ وَالخِطاباتِ وَالعَصَبِيّاتِ المُخْتَلِفَةِ، لِذا إِنَّ أَيَّ تَفْكيرٍ في إِمْكانِ بِناءِ مَشْروعٍ إِنْسانيٍّ كُلّيٍّ يُعَزِّزُ قِيَمَ العَيْشِ المُشْتَرَكِ وَالفَهْمِ المُتَبادَلِ وَالحَقيقَةِ التي تَبْقى قَيْدَ التَّداوُلِ وَالِاهْتِمامِ، لا بُدَّ أَنْ يَتَأَسَّسَ على وَعْيٍ بِضَرورَةِ تَّفْعيلِ المَنْظورِ النَّقْديِّ لِمَفْهومِ التَّعَدُّدِيَّةِ نَفْسِهِ، بِحَيْثُ نُمَكِّنُ ذَواتِنا في القُدْرَةِ على الِانْتِقالِ من الِانْفِعالِ بِقَبولِ الِاخْتِلافِ إلى الإِقامَةِ الحُرَّةِ في إِطارٍ اجْتِماعِيٍّ فاعِلٍ يُتيحُ التَّشَكُّلَ المُريحَ لِلمَعْنى في وَسَطٍ مُتَعَدِّد.

فَالتَّعَدُّدِيَّةُ تَجاوُزٌ لِلتَّسامُحِ وَالتَّعايُشِ وَالقَُولِ بِالآخَرِ، إِذْ إِنَّها على المُسْتَوى المَعْرِفيِّ تَفْكيكٌ لِذِهْنِيَّةِ الإِلغاءِ في وِجْدانِ كُلِّ واحِدٍ مِنّا، بِحَيْثُ يُصْبِحُ الإِنْسانُ ذا كَيْنونَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَيْ إِنَّهُ كُلَّما كانَ قَيْدَ التَّجْرِبَةِ الحُرَّةِ وَجَدَ نَفْسَهُ تُمارِسُ التَّعَدُّدِيَّةَ في الفَهْمِ وَالتَّأْسيسِ، بِحَيْثُ لا تَعودُ إِلَيْهِ مَشاعِرُ الِاحْتِكارِ، وَيَبْقى دائِمَ التَّحَسُّسِ مِنْ إِمْكانِ أَنْ يَتَسَلَّلَ إلى ذِهْنِهِ الشُّعورُ بِالمَرْكَزِيَّةِ المَعْرِفِيَّةِ أَوِ الأَنْطولوجِيَّة. فَالذّاتُ الفاعِلَةُ هِيَ تِلكَ الحَيْثِيَّةُ الحِوارِيَّةُ الدّائِمَة.

كَما أَنَّ الذّاتَ الحِوارِيَّةَ هِيَ التي لا تَضَعُ الأَنا مَوْضِعَ العَداءِ، فَلا تُفَكِّرُ في الآخَرِ أَنَّهُ مَصْدَرُ تَهْديدٍ وُجودِيٍّ لِلذّاتِ، وَلا تَرى التَّفْكيرَ في الإِقْصاءِ عَمَلًا إِنْسانِيًّا مُبَرَّرا. إِنَّ الذاتَ الحِوارِيَّةَ بُنْيَةٌ لا تَكْتَمِلُ، لِذا هِيَ في حاجَةٍ إلى الِانْدِفاعِ الدّائِمِ نَحْوَ الِاكْتِمالِ وَالِاغْتِناءِ بِمَا لَدى الآخَر. لَكِنْ مَا يَنْبَغي التَّنَبُّهُ إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ العَيْشَ الآخَرِيَّ، أَوْ بِمَعْنًى أَكْثَرَ وُضوحًا، التَّفاعُلَ مَعَ الآخَرِ يَوْمِيًّا، يَقْتَضي فَهْمَ التَّعَدُّدِيَّةِ على المُسْتَوَيَيْنِ السِّياسيِّ وَالأَخْلاقيِّ أَيْضًا، إِذْ إِنَّ الأُمورَ تُدارُ فِعْلِيًّا في هَذا السِّيَاق.

مفهوم التعدُّدية يقتضي عدم استيراد الأزمات والمصطلحات المواكبة لها كالقول إنّ هناك مشكلة أقليات وإثنيات

إِنَّ أَخْلاقِيَّةَ اسْتِحْضارِ التَّعَدُّدِيَّةِ في الفِعْلِ السِّياسيِّ توجِبُ عَدالَةَ التَّمْثيلِ لِلأَصْواتِ المُتَعَدِّدَة. هَذِهِ العَدالَةُ الحُضورِيَّةُ لا يُمْكِنُ إِقامَتُهَا بِهَيْمَنَةِ صَوْتٍ على باقي الأَصْواتِ، بَل بِإِتاحَةِ المَجالِ العُموميِّ مِنْ مُنْطَلَقِ قُوَّةِ الفِكْرَةِ الأَخْلاقِيَّةِ لِلتَّعَدُّدِيَّةِ داخِلَ المُجْتَمَعِ الواحِدِ، فَيُؤْمِنُ الجَميعُ بِضَرورَةِ حِيادِ المَجالِ العُموميِّ عَنْ هَيْمَنَةِ الرَّأْيِ لِفِئَةٍ دونَ أُخْرَى، وَيَسْعى الجَميعُ لِتَطْبيقِ القَوانِينِ وَالتَّشْريعاتِ التي تَضْمَنُ تَداوُلَ السُّلطَةِ، وَعَدَمَ وَضْعِ الثُّنائِيّاتِ القاتِلَةِ عَوائِقَ تَحْكُمُ سَيْرورَةَ العَمَلِ بِالقَوانينِ، لا عُرْفًا وَلا خُضوعًا لِضَروراتِ أَيِّ مَرْحَلَة. كَما أَنَّ مَفْهومَ التَّعَدُّدِيَّةِ عِنْدَنا يَقْتَضي التَّفْكيرَ بِعَدَمِ التَّلَذُّذِ بِاسْتيرادِ الأَزَماتِ وَالمُصْطَلَحاتِ المُواكِبَةِ لَها، كَالقَوْلِ إِنَّ هُناكَ مُشْكِلَةَ الأَقَلِّيّاتِ وَالإِثْنِيّاتِ، بِحَيْثُ نَجِدُ مَنْ يَنْظُرُ لِلِانْفِصالِ وَتَفْكيكِ الدُّوَلِ وَتَخْريبِ الأَنْظِمَةِ نُزولًا عِنْدَ هَذا الشُّعورِ الِانْفِعالِيِّ النّاجِمِ عَنْ سوءِ إِدارَةِ الدَّوْلَةِ وَعَدَمِ عِنايَتِها بِتَحْقيقِ العَدالَةِ وَالمُساواةِ، فَغَلَّبَتْ قُوَّةَ الهَيْمَنَةِ على قُوَّةِ الفِكْرَةِ وَصادَرَتِ المَفاهيمَ المُؤَسِّسَةَ لِلعَيْشِ الكَريم.

مِنْ هُنا، إِنَّ طَرْحَ مَفْهومِ التَّعَدُّدِيَّةِ لِلتَّداوُلِ يَقْتَضي مُعالَجَةَ تَفْصيلاتِ العَيْشِ التي حَجَبَتْ حُضورَهُ المَكينَ في الذَّواتِ الفاعِلَةِ وَالمُؤَسَّساتِ القادِرَةِ داخِلَ مُجْتَمَعاتِنا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن