الحقيقة أنّ هذه المنطقة التي هُدم جانب من مقابرها وجاري حاليًا هدم المزيد، نشأت تحت سفح المقطم في القرن السابع الميلادي ودُفن فيها عدد من الصحابة وشيّدت فيها أضرحة للحكّام وأولياء الله الصالحين، وامتدّت في عصر محمد علي لتشمل مناطق الإمام الشافعي والسيدة نفيسة التي أصبحت تشكّل هوية بصرية للقاهرة على مساحة 500 فدان وشيد فيها حوش الباشا توفيق و"البرنسيسات" وباشوات وأعيان مصر وكثير من رموزها الثقافية في مجالات السياسية والفن والشعر والطب والأدب.
شكّلت هذه المنطقة وأمامها قلعة محمد علي والقباب المملوكية (الجاري تفكيك بعضها وهدم بعضها الآخر) الهوية البصرية لمدينة القاهرة عبر قرون من الزمن، فرغم بناء كوبري يتيم في المنطقة وبعض المباني التي أحيطت بها وشوّهت جانبًا من معالمها إلا أنها بقيت كما هي لم يقترب منها أيّ نظام سابق في مصر.
بدأت مشاريع إزالة المقابر منذ العام الماضي ثم تسارعت الوتيرة طوال الشهر الماضي مع الإعلان عن إزالة 98 مقبرة أزيل بعضها بالفعل وضمّت مقابر لعلماء طب مثل د. على إبراهيم مؤسس كلية طب القصر العيني في مصر، وشعراء مثل أحمد شوقي، ورجال دين وشخصيات من العائلة المالكة، وهو ما اعتبرته المعمارية المصرية العالمية جليلة القاضي "محو لحقبة من تطوّر العمارة الجنائزية في مصر والاستيلاء على القطع الثمينة التي تحتويها من تركيبات رخامية أو حجرية وشواهد فريدة تحمل أجمل نماذج الخط العربي في أكبر عملية قرصنة عرفتها مصر في تاريخها".
كما اعترض ديوان المعماريين وهي جمعية مستقلّة تضمّ أمهر المعماريين المصريين، كما تأسّست جمعيات أخرى لمقاومة عمليات الإزالة إحداها حملت عنوان "أنقذوا جبانات مصر من الزوال" وخاطبت المسؤولين في الدولة، ونشرت بيانًا على موقعها وقّع عليه ممثلون عن جمعيات ونقابات مهنية ومتخصصين وشخصيات عامة بأشخاصهم وصفاتهم، وعبّروا جميعًا عن "إدانتهم لمسلسل التعدي على منطقة جبانات القاهرة التاريخية والمسجّــلة عــلى قــائــمة الــتراث العالمي".
الحكومة تجاهلت توصيات اللجنة التي شكّلتها وقرّرت استكمال عمليات الإزالة
كما قام مئات الشباب يوم السبت الماضي "بمخاطرة" الذهاب معًا في تجمّع ضمّ عددًا من أساتذة العمارة إلى منطقة الإمام الشافعي تحت اسم "رسم مصر" من أجل تصوير أفلام لمنصات التواصل الاجتماعي توثّق مقابر المنطقة وما أزيل منها وما سيزال، وهو مشهد شجاع غير متكرّر كثيرًا في مصر مؤخرًا.
اللافت أنّ مجلس الوزراء شكّل لجنة متخصّصة في شهر يونيو الماضي لبحث موضوع الهدم، وقدّمت اللجنة تقريرها الشهر الماضي وأثبتت عدم وجود أي جدوى للـطرق المرورية التي تخترق الجبانات، كما طرحت عدة بدائل تعتمد عــلى اســتغلال شــبكة الــطرق الــحالــية والمســتحدثــة دون المــساس بـالـجبانـات الـتاريـخية، مع وضع رؤية لاستغلال الموقع للسياحة الدينية والثقافية وكـذلـك حـلّ مـشكلة المياه الجوفية بالمنطقة.
وكانت المفاجأة الكبرى، هي تجاهل الحكومة لتوصيات اللجنة التي شكّلتها وقرّرت استكمال عمليات الإزالة، مما دفع 5 من أصل 9 أعضاء في اللجنة إلى الاستقالة احتجاجًا على تجاهل كل توصياتهم ومقترحاتهم، ومع ذلك لم تتراجع الدولة واستمرّت في عمليات الهدم.
الهوية البصرية للمدينة
إنّ معنى الهوية البصرية للمدينة كما يقول "أهل العمارة" يعني تلقائيًا الحفاظ عليها كما هي وتجديدها وتطويرها، لأنها عبارة عن لقطة أو صورة تجذب الكثيرين وتترسّخ في ذاكرتهم عبر الزمن، فمن الصعب أن تلغي وقع الهرم وأبو الهول (جاري بناء كوبري بجواره) كهوية بصرية لمصر كلها، ولا صورة القلعة والقباب والمقابر المملوكية المحيطة بها كهوية بصرية أخرى للقاهرة، ولا برج "أيفل" كهوية بصرية لفرنسا وساعة "بج بن" في لندن ولا "الأكروبوليس" في أثينا ولا صخرة الروشة في بيروت أو مسجد الفنا في مراكش، وقس على ذلك مئات الصور لمختلف مدن العالم التي شكّلت هويتها وكانت دائمًا مصدر جذب للسياحة والأموال أيضًا.
لم يقدم أحد في كل هذه المدن وغيرها على إزالة أثر أو مبنى تاريخي يمثّل جانبًا من الهوية التاريخية لأي مدينة في العالم، فهل تخيّل أحد أنّ الحكومة اليونانية أثناء أزمتها الاقتصادية الطاحنة فكّرت أن تؤجّر أو تشوّه معلمها السياحي الأبرز "الأكروبوليس" من أجل بعض السيولة النقدية؟ بالقطع لا. بل أن البولنديين أعادوا بناء وسط العاصمة الذي تهدّم بالكامل أثناء الحرب العالمية الثانية، بتقنيات حديثة وبتفاصيل الشكل القديم نفسه ولم يفكّروا للحظة في بناء أبراج ضخمة مكانها لأنها ستحقق لهم مكاسب أكبر بكثير مما أنفق على استعادة الهوية البصرية لمدينتهم التاريخية.
صحيح أنّ العالم في القرون الوسطى والقديمة هيمن عليه قانون الهدم والإزالة وغاب عنه الوعي بمعاني الحفاظ على التراث والهوية البصرية، تمامًا مثلما كان في ذلك الوقت الحكّام يقتلون معارضيهم وكانت نظريات الحكم الإلهي سائدة، ولكن في عالم أصبحت فيه دولة القانون هدفًا وأصبحت الشعوب ولو نظريًا هي مصدر السلطات، أصبح متداخلًا مع قيم العصر في السياسة والاقتصاد المعمار والحفاظ على التراث والهوية البصرية للمدن.
هل من تفسير؟
لم يستطع كثير من المتابعين للشأن المصري أن يجيبوا بشكل قاطع عن أسباب هذا الإصرار على تغيير ولو جانب من معالم القاهرة وهويتها، وبدا الأمر لافتًا أن تعطي الدولة "الأولوية القصوى" لتطوير الحدائق والشوارع والأحياء السكنية والمناطق التاريخية وتنفق مليارات الجنيهات، في وقت أزمة اقتصادية خانقة، على جوانب اعتبرها كثير من الاقتصاديين ليست أولوية؟
الحقيقة أنّ كثيرين وقفوا عاجزين عن تقديم تفسير حاسم لأسباب هذا الإصرار، ومع ذلك تركّزت التفسيرات في نقطتين رئيسيتين: الأولى اقتصادية / سياسية تتعلّق بقوة الشركات والجهات التي تقوم بعمليات تطوير الطرق وبناء الكباري والمحاور بحيث باتت تمثّل قوة مؤثرة جعلت الدولة تعطي أولوية قصوى لدعم عملها، خاصة أنّ هناك شريحة من المقاولين والعمال والموظفين يعملون فيها، وهو ما اعتبره البعض طريق لمواجهة البطالة وبالتالي باتت نظرية "كوبري لكل مواطن" و"محور في كل تقاطع" مبرّرة لدى هؤلاء لتشغيل الناس والتخفيف من حدة البطالة ودعم دورة رأس المال.
الحكم الحالي يرغب في تثبيت هوية "نظامه العمراني" وإحداث "قطيعة بصرية" مع شكل القاهرة التاريخية
أما التفسير الثاني وهو الأكثر تعقيدًا، فيعتبر أنّ الحكم الحالي أو عصر الجمهورية الجديدة يرغب في تثبيت ليس فقط هوية نظامه السياسي والاقتصادي، إنما أيضًا العمراني بخلق هوية جديدة للقاهرة ولمختلف المدن المصرية وإحداث "قطيعة بصرية" مع كل الصور التي توارثتها الأجيال عن شكل القاهرة التاريخية.
إنّ صور كورنيش قاهرة أفلام الأبيض والأسود، حيث عربات الذرة المشوي و"حمص الشام" والسميط والأشجار القديمة مطلوب تبديلها بـ"ممشى أهل مصر"، حيث صور المقاهي والمطاعم الفخمة ورسم دخول أو بالأحرى "رسم مشي" ٢٠ جنيه، وأشجار قصيرة محل الأشجار الفارعة التي نمت على مدار ما يقرب من قرنين وتمّ قطعها.
ما يجري في منطقة المقابر التاريخية هو محاولة لتأسيس هوية بصرية جديدة للمدينة تختلف عما شاهدناه منذ قرون، فكما أنّ الناس لا تعرف كيف كان عليه حال القاهرة قبل بناء "القاهرة الخديوية"، فإنّ هناك من يرى أنّ الناس ستنسى شكل قاهرة الإمام الشافعي وستتذكّر الهوية الجديدة المرتبطة بالعهد الجديد، وهو أمر وارد أن يفسّر ما جرى لكنّه ينسى أنّ هذه الهوية الجديدة تؤسّس في ظل عصر يختلف عن عصر الخديوي إسماعيل ليس من زاوية وجود وسائل التواصل الاجتماعي وثورة الاتصالات إنما لأنّ كلّ من أسّسوا في عصرنا الحالي شرعيتهم "العمرانية" على بناء هوية جديدة لمدنهم فعلوها في الصحراء وفي الخلاء أو الأراضي البكر، وحافظوا على كل ذرّة من تراب مبانيهم وتراثهم القديم.
(خاص "عروبة 22")