مثّلت الاشتباكات في السويداء في جبل العرب جنوب سوريا بين ميليشيات بدوية ودرزية، وما تخلّلها وتلاها من خطف وجرائم واعتداءات نفّذت بعضها أجهزة أمنية وعسكرية تابعة أو موالية للنظام الجديد في دمشق، فصلاً جديداً من فصول النزاع الأهلي المستمرّ منذ سقوط بشار الأسد. والفصل الجديد هذا، إذ يختلف عن ذاك الذي شهد اشتباكات ثم مجازر ضد مواطنين علويين في منطقة الساحل بحُكم انعدام البُعد الثأري المرتبط بالحقبة الأسدية فيه، يشابهه لجهة أسلوب التعامل مع خصوصية جغرافية – طائفية لا تقلّ أهمية وخطورة اليوم في سوريا عن المسألة القومية، أو الخصوصية الكردية الشمال – شرقية التي ما زالت معلّقة.
والحقّ أن المسألتين الطائفية والقومية موروثتان وليستا من صنع النظام الجديد. فاستنفار العصبيات الأولية وتحويلها إلى أدوات تعبئة وقمع وتنكيل وتمييز بين السوريين كانت من أبرز سمات الأسدية خلال أكثر من نصف قرن. كما أن المسألة الطائفية شأن عابر للحدود وماثل في بلدان المشرق بأسره، من لبنان إلى العراق، وله في دولة إسرائيل التي تقوم على مبدأ الصفاء الهويّاتي وطرد الآخر وصولاً إلى السعي لإبادته النموذج الأكثر شراسة. لكن عدم التسبّب بأمر أو عدم صناعته لا يمنح مبرّراً لسوء التعامل معه. فكيف بالتعامل المتوحّش ورداءة التقدير التي تُغذّي الضغينة وتؤسّس لمستقبل حقدٍ وتصفية حسابات، حتى لو هدأت الأحوال مؤقتاً بفعل القوة أو القهر؟
تكرّر ذكر المسألة الطائفية في سوريا كواحدة من أكثر المسائل تعقيداً. وتردّد على الدوام أن أي حكم انتقالي بعد عقود قمع وسجن ومذابح وثورة وحرب وتدخلات خارجية سيواجه تحديات التعامل مع التنوع الديني والقومي وتبعاته السياسية والاجتماعية، بموازاة تعامله مع التحدّيات الاقتصادية وقضايا إعادة الإعمار وضبط الأمن والحدود وإعادة تعريف موقع سوريا في علاقاتها الإقليمية والدولية. وارتدى الكلام في الموضوع أهمّية مضاعفة في ظل ثقافة قوى الحُكم الجديد الإسلامية وخلفية بعض مكوّناتها الجهادية، وفي ظلّ حاجة الرئيس أحمد الشرع إلى القوى المسلّحة التي أوصلته إلى الحكم في كانون الأول (ديسمبر) 2024 وسعيه للحفاظ على دعمها من ناحية، وفي ظلّ إلزامية تعامله مع عالم خارجي لا تحسين أحوال اقتصادية ومعيشية ولا اطمئنان لاستقرار حكمٍ من دون العودة إلى علاقاته ومحافله من ناحية ثانية.
على أن الاكتفاء بدعم القوى المسلّحة رغم ارتكاباتها، والظنّ أن العلاقة بواشنطن ثم التطبيع مع إسرائيل يكفيان لتحصين حُكم وتأمين استدامته، كانا خطأ كبيراً تسبّب بسلسلة أخطاء جسيمة لاحقة. فالعمل الدؤوب لنيل المشروعية الشعبية للحُكم، وليس العسكرية فقط، أمر لا يمكن تجاوزه، خاصة بعد تجارب السنوات المنصرمة وما رافقها من تفتّت جغرافي عمّق الانتماءات الطائفية وجعلها لدى "الأقلّيات العدديّة" تحديداً هويات سياسية محمّلة بالمخاوف التي لا مفرّ من التعامل المنفتح معها. والقول بأن الأكثرية السنية كتلة متراصة "مضمونة الولاء" بمعزل عن الفوارق الطبقية والاجتماعية والمناطقية والتعليمية والسياسية داخلها، أو أنها كافية شعبياً لحماية السلطة، قولٌ في غير محلّه، وهو أصلاً لا يكفي للتعامل مع الصعاب المتعدّدة والمتراكمة.
والأكيد أن التسامح، أو حتى التواطؤ، مع مرتكبي الجرائم الطائفية ضد العلويّين في آذار (مارس) الفائت عوض معاقبتهم مباشرة، خلق قناعة لديهم ولدى أشباههم بحصانتهم وبأحقّية "ثأرهم" المطيح بالعدالة وبأبسط شروطها. فلم يكن مستبعداً بالتالي تكرارهم الفعلة، ولو في سياق مغاير، في جبل العرب ضد مواطنين دروز شاؤوا "التمرّد السياسي"، فوق ما تعدّه الأوساط الإسلامية المتشدّدة "تمرّدهم الديني" التأسيسي. وأضافت محدودية الخبرة وسوء فهم ديناميات العلاقات الخارجية أعباء إضافية على الداخل المعقّد، وأنتجت إشكالياتٍ لا تقلّ خطورة عليه. وهذا ما بدأ يتبدّى منذ أسابيع. فالاعتقاد بالقدرة على توظيف التطبيع الذي وفّرته السعودية مع واشنطن، ثم التعويل على تطبيع مماثل تؤمّنه الإمارات وأذربيجان مع إسرائيل والمحافظة على علاقات جيدة في الوقت نفسه مع تركيا وقطر، بهدف الحصول على "إطلاق يد" كامل في الداخل السوري، اعتقاد بدا ممكناً نظرياً لكنّه متهافتٌ توقيتاً وتحقّقاً سريعاً لسببين.
الأول أن المعادلة الجديدة التي يجري إرساؤها في المنطقة لم تكتمل جميع معالمها بعد. وهذا يعني أن الطرف الأقوى فيها، إسرائيل، غير مستعجل على التطبيع إذ لم ينته من رسم كل ما يريده، بما في ذلك رغبته بتعديل بعض الحدود الكيانية. والثاني أن الثمن الإسرائيلي في العام 2025 للالتحاق باتفاقيات أبراهام يتضّمن شروطاً لتكريس الأمر الواقع الميداني في المشرق بأكمله، تعويلاً على مؤدّيات حرب الإبادة في غزة وحرب الضمّ الدائرة والمقبلة على تصاعد في الضفة، وتعويلاً أيضاً على تراجع إيران وعدم السماح باستفادة تركيا من هذا التراجع. ولا يكفي قول الشرع إن "لسوريا وإسرائيل أعداء مشتركين" لكسب القبول الإسرائيلي غير المشروط، لأن تل أبيب لا تريد ندّية في أي علاقة، وهي إن طبّعت، فسيكون الأمر على النقيض من التطبيعات السابقة (التي شملت البحرين والإمارات والسودان والمغرب) مع دولة تملك الحدود معها وتحتلّ جزءاً من أراضيها، وثمة تداخل في الديموغرافيا الطائفية في مناطق التماس الجغرافي بينهما.
وإسرائيل التي تدرك وهن نظام الشرع في دمشق وندرة مداخيله الاقتصادية، وتدرك أيضاً أنه لم يحوّل بعد أي اتفاق مع القوى الكردية (المنتشرة فوق ربع المساحة السورية، حيث موارد النفط) إلى معطى سياسي ملموس، ولم يُجد إدارة المسألة الطائفية لتجنّب انفجاراتها، ولم يُحسن التعامل مع المخاوف المسيحية بعد الاعتداء الإجرامي في الكنيسة الدمشقية، تريد استغلال كل ذلك، ولن تقدّم له تطبيعاً يترك له أي هامش مناورة. بل تريد أن يكون التطبيع استسلاماً لقبولٍ بدور لها داخل سوريا ذاتها.
من هنا، يمكن تفسير عدوانها العسكري بذريعة حماية الدروز السوريين. فهي تسعى انطلاقاً من إثارة شأن القربى بين دروز إسرائيل ودروز جبل العرب، وانطلاقاً من ذكرها للبعد الأمني في جنوب سوريا الذي تريده خالياً من السلاح وتحت وصايتها، أن تجعل مجرّد الكلام عن الجولان المحتلّ أمراً مرفوضاً، ليس لأنها ضمّته واعترف دونالد ترامب نفسه بهذا الضم، بل لأن سكّانه الأصليين السوريين، هم بمعظمهم دروز، وستقول إنهم مهدّدون أيضاً!
أبعد من ذلك، تعرف إسرائيل أن المسألة الدرزية إقليمية، أي أنها تخصّ جزءاً من تركيبتها السكانية إضافة إلى تركيبة الأرض الجولانية المحتلة والجنوب السوري امتداداً نحو البقاع الغربي وحاصبيا والشوف وعاليه والمتن في لبنان. وهي جميعها مناطق مركزية لعبت دوراً أساسياً في تاريخ المنطقة. وكل اختلال فيها يؤثّر على الاستقرار وعلى رسوّ موازين القوى الداخلية. وبالتالي، لن تترك تل أبيب هذا "الملف"، وستستخدمه في أي مفاوضات تطبيع، وقبل ذلك ربما في أي ضغط إضافي يمكن أن تمارسه على دمشق، سعياً لفرض المعادلة "النهائية" التي تريدها.
والتطبيع معها في هكذا أحوال، بمعزل عن جميع الاعتبارات الأخلاقية والقانونية، يصبح قسراً ومهانةً وخضوعاً لاحتلالها وتدخّلاتها، لا ملاذاً كان صنّاع القرار الجدد في سوريا يمنّون النفس به…
(القدس العربي)