لا يحيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن هدفه، فسياسته تجاه إعادة ترتيب الشرق الأوسط هي في خدمة هدفه الأكبر، أي محاصرة الصين المنافس الاقتصادي لبلاده. ترامب لم يأت ليُلقي سلاماً، بل لحماية المال الأميركي أولاً، فإن كان يحمل معه سلاماً فهو مفروض بالقوة، مما يعني أنه ليس بسلام، بل تكرار لاتفاقيات الحروب والهزائم التي لم تمنح العالم الاستقرار يوماً.
لذلك، فإن فهم السياسات الجديدة لمنطقتنا مرهون بفهمنا لسياسة ترامب. الشرق الأوسط الكبير في عقله، هذه الرقعة الجغرافية الكبيرة التي تمتد من منطقتنا العربية إلى حدود الصين وروسيا، هي في خدمة أهداف الولايات المتحدة وحلفائها.
عملياً، يمكن النظر إلى الدور المتصاعد لدولة من أطراف الشرق الأوسط، هي أذربيجان، في قلب المنطقة العربية، بأنه تحوّل ارتبط بالاستثمار في المصالح الغربية، بدأ بالاقتداء بطبيعة تركيا الانتهازية بوصفها الأخ الأكبر والعراب الذي يمسك بأيدي الجميع، وصولاً إلى التحالف مع إسرائيل بوصفها مفتاحاً للعلاقات الغربية.
لذلك، فإن الزيارة المفاجئة للرئيس السوري أحمد الشرع لباكو تعني أن أذربيجان باتت جزءاً من سياسة شدّ أطراف جغرافيا الشرق الأوسط التي تمارسها إدارة ترامب بمشاركة حلفائها في تركيا وإسرائيل. وهو ما سيؤدي إلى مزيد من الاضطراب لا الاستقرار؛ فأذربيجان ضمن جنوبي القوقاز التي هي منطقة خطرة تقع على حدود روسيا وإيران وتركيا وأوروبا وجزء من الممر التجاري الدولي الأوسط، الذي يمثل شريان حياة بين الشرق والغرب. والآن، تجري محاولات لتعديل مساراته بما يخدم طموحات الدول المستثمِرة في الاستراتيجية الأميركية.
كذلك، فأذربيجان التي استعادت مرتفعات ناغورني كراباخ من جارتها أرمينيا تعمل على تثبيت جغرافيتها الجديدة بتحولات سكانية واقتصادية، وهو ما يفتح الحديث عن توطين المقاتلين الأجانب السُنة من سوريا في كراباخ، التي نزح منها آلاف الأرمن، إلى جانب التخطيط للقضاء على أيّ طموحات أرمينية مستقبلاً؛ وذلك بتعديل الجغرافيا بفتح ممر زنغزور عبر محافظة سيونيك الجنوبية الأرمينية، الذي هدفه الأول ربط أذربيجان الأم بإقليمها المنفصل جغرافياً (ناخيتشيفان) بما يشكل حزاماً طورانياً لمجاورته تركيا، ثم يصبح في ما بعد ممراً لمصلحة الحلف الأطلسي.
تصر أذربيجان على فتح ذلك الممر قبل التوصل إلى اتفاق سلام دائم مع أرمينيا، وهو ما تعارضه جارتهما إيران رفضاً منها لأي تغيير في الجيوسياسية التي استقرت عليها مصالحها وممراتها التجارية، مما دفع منافستها تركيا، التي تطمح إلى فتح طريق إلى منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى، إلى ابتكار اقتراح تسليم ذلك الممر إلى طرف ثالث يضمن الابتعاد عن مسألة تبادل الأراضي أو السيطرة عليها بالقوة، أي إلى شركة أميركية تقوم بتنظيم النشاطات التجارية والجمركية بين الشرق والغرب عبر الأراضي الأرمينية، وهو ما أفصح عنه السفير الأميركي لدى أنقرة توم باراك بقوله إن واشنطن عرضت السيطرة على معبر زنغزور البالغ طوله 32 كيلومتراً لمدة 100 عام.
وإن كانت الخارجية الأرمينية قد أعلنت رفضها لذلك المقترح، وحذر الأمن القومي الإيراني يريفان من أي تغيير في الحدود السياسية، لكن هذا لا يعني موت هذا المقترح، الذي قد توافق عليه حكومة أرمينيا الطامحة للارتباط بالمصالح الغربية أيضاً، ما دامت ستضمن سيادتها على هذا المشروع.
بالطبع، هذا الطرح لا يقتصر على خدمة اللاعبين الإقليميين، فهو جزء من الاستراتيجية الأميركية لإضعاف محور روسيا وإيران والصين ومحاصرة ممراتها التجارية وضمان أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي، أي أن إدارة ترامب تستنسخ التجارب الدموية، مثل الحرب الروسية-الجورجية ولكن بأدوات ناعمة جديدة.
(النهار اللبنانية)