الأمن الغذائي والمائي

"المقاومة البيولوجية" للآفات الزراعية!بديل آمن للمبيدات التي تضرّ بصحة المزارعين وسلامة المحاصيل

تُعدّ الآفات الزراعية من أكبر التحدّيات التي تُهدّد القطاع الزراعي في الوطن العربي، حيث تؤدي إلى تلف المحاصيل الزراعية وتؤثّر في إنتاجيّتها وجودتها. وتشمل الآفات الزراعية كلّ كائن يُسبّب ضررًا للمحاصيل، مثل الحشرات والديدان والقوارض والفطريات والبكتيريا والفيروسات.

تعاني الدول العربية من خسائر كبيرة سنويًا بسبب الآفات، تُقدّر بنحو 35% من الإنتاج الزراعي، وقد يصل التأثير إلى أكثر من ذلك في مواسم الإصابة الشديدة. ولا يقتصر الفاقد على الكمّ فقط، بل يمتدّ إلى الجودة أيضًا إذ تؤثّر الآفات في قدرة المحاصيل على المنافسة في الأسواق العالمية، وتحدّ من فرص تصديرها ممّا يضرّ الدخل القومي للدول العربية التي تعتمد على الزراعة كمصدرٍ اقتصاديّ أساسيّ.

وتُعدّ المُبيدات الكيميائية إحدى أهمّ الوسائل المستخدمة لمكافحة الآفات الزراعية، وعلى الرَّغم من فعّاليتها بشكلٍ كبيرٍ، إلّا أنّها قد تُستخدم بشكل غير منضبط وغير آمن، وقد تؤدّي إلى تأثيراتٍ سلبيةٍ على صحة الإنسان والبيئة والمحاصيل، في وقتٍ يتزايد فيه الاهتمام العالمي بتأثيرات المبيدات في الأغذية حيث يؤدّي استخدامها من دون الاهتمام بفترة الأمان، وهي الفترة ما بين آخر رشّة للمبيد والحصاد، إلى بقاء آثار المبيدات في المحاصيل وانتقالها إلى المستهلكين. وغالبًا، ما تكون هذه البقايا سامّة وقد تسبّب العديد من الأمراض، مثل السرطان وتضرّر الجهازَيْن التنفسي والعصبي.

كما تُلحق المبيدات ضررًا بالمزارعين، إذ تشير تقديرات "منظمة الصحة العالمية" إلى أن ما يزيد على 25 مليون مزارع بالدول النامية يعانون من حالات التسمّم الحادّ سنويًا، نتيجة عدم استخدامهم لأي أدوات وقائية أثناء رشّ المبيدات.

توجّه العديد من الدول إلى الزراعة العضوية و"المقاومة البيولوجية" للآفات كبدائل أكثر أمانًا وصداقةً للبيئة

‏وأظهرت دراساتٌ أنّ بعض المبيدات تؤدّي لتغيير التكوين الغذائي للنباتات، وتقلّل من محتواها من الفيتامينات والمعادن. كما يمتدّ التأثير إلى التربة حيث تقتل المبيدات الكائنات الحيّة الدقيقة النافعة وتخلّ بالتوازن البيئي، وقد يصل التأثير أيضًا إلى مياه الريّ وكذلك الحشرات النّافعة مثل النحل الذي يتأثر سلبًا بالمبيدات، ممّا يؤثّر على عمليات التلقيح للنباتات وما يترتّب عليها من انخفاض الإنتاجية.

وتضع المنظّمات الدولية المعنية بسلامة الغذاء حدودًا قصوى مسموحًا بها لمتبقّيات المبيدات في الأغذية، وفي حالة تجاوزها، يتمّ رفض الشحنات ممّا يؤثر على سمعة الدول المُصدّرة وفقدان ثقة المستوردين بها وتقييد الصادرات منها، عدا عن إدراج الدولة في قوائم المراقبة من قبل الجهات الدولية، كما هو الحال في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبعض الأسواق الآسيوية والخليجية.

وقد أدّى ذلك إلى توجّه العديد من الدول إلى الزراعة العضوية و"المقاومة البيولوجية" للآفات كبدائل أكثر أمانًا وصداقةً للبيئة، تمشّيًا مع التقدّم الهائل في هذا المجال والرّغبة في تقليل الاعتماد على المبيدات الكيميائية.

وتعتمد المكافحة البيولوجية على الاستفادة من المواد الطبيعية والكائنات الدقيقة الموجودة في البيئة الزراعية، والتي لا تُسبّب أي ضررٍ للنبات أو الإنسان، في مقاومة الآفات والأمراض، مثل بعض أنواع الحشرات والبكتيريا والفطريات والفيروسات ذات الطبيعة الخاصّة والتي لها القدرة على مكافحة الآفات بصورةٍ مباشرةٍ أو الاستفادة منها في استخلاص مبيداتٍ نوعيةٍ متخصّصةٍ ليس لها أي تأثيرات سلبية على النبات أو الإنسان.

نُظُم مراقبة حديثة تعتمد على ذكاء اصطناعي يحدّد نوع الآفات والحشرات والطرق الطبيعية المُلائمة لمقاومتها

كما أنّ هناك العديد من المُنتجات والمُستخلصات الطبيعية التي يمكن أن تُستخدم كبديلٍ للمُبيدات الكيميائية مثل زيت النيم (يُستخرج من شجرة تحمل الاسم ذاته) وزيت الثوم، اللّذَيْن يتمّ رشّهما على النباتات لمنع تغذية الحشرات الضارّة أو لإعاقة تكاثرها.

وهناك تطوّرات تكنولوجية عديدة في هذا المجال، مثل إنتاج أجهزة حديثة للرصد المُبكر للآفات لتحديد توقيتات وأماكن انتشارها، بالإضافة إلى نُظُم المراقبة الحديثة والتي تعتمد على الذّكاء الاصطناعي حيث يحدّد نوع وطبيعة الآفات والحشرات والطرق الطبيعية المُلائمة لمقاومتها، والتي تتميّز بأنّها لا تُنتج أي متبقّيات ضارة للمزارعين والبيئة وتُقلّل من تطوّر سلالات جديدة من الآفات المقاومة للعلاجات، كما يحدث مع المركّبات الكيميائية. وكلّ تلك التطورات تشكّل جزءًا أساسيًا من استراتيجية الزراعة النظيفة التي تُعزّز السلاسل الغذائية النظيفة وتُحقّق توازنًا بیئيًّا مستدامًا.

والمبيدات الحيوية اقتصادية ورخيصة، وسهلة الاستخدام، وطويلة الأمد، وفعّالة للغاية، وآمنة بيئيًا، وتتميّز بآليات عملٍ متنوعةٍ، كما أنّها انتقائية، أي أنها تصيب فقط الآفات الزراعية المطلوب القضاء عليها.

ومن أكثر أنواع المقاومة البيولوجية شيوعًا "الميكروبيوم البكتيري"، ومنها البكتيريا المسبّبة للأمراض الحشرية والتي تتسبّب في إصابة وقتل الآفات الحشرية والعثّ.

الحشرات البيولوجية نجحت في مقاومة الآفات وأكدت جدوى المقاومة البيولوجية في تحسين الإنتاجية وزيادة فرص التصدير

وعلى الرَّغم من مزايا المقاومة البيولوجية، إلّا أنّها تواجه بعض التحدّيات التي تُعرقل انتشارها، مثل قلّة الوعي والمعرفة بأهميتها وآليات استخدامها بين المزارعين. بالإضافة إلى ضعف البنية التحتيّة اللازمة لإنتاجها وتوزيعها مع الحاجة إلى دراسات علمية دقيقة حول التفاعل بين الكائنات المُستخدمة والبيئة المحلية بهدف تفادي أي آثار سلبية.

وهناك العديد من التجارب الناجعة في المنطقة العربية لتطبيق المقاومة البيولوجية في كلٍّ من مصر والمغرب والأردن وغيرها، من خلال استخدام الحشرات البيولوجية في البيوت المحميّة، والتي نجحت في مقاومة العديد من الآفات، وأكدت جدوى المقاومة البيولوجية في تحسين الإنتاجية وجودة المحاصيل وزيادة فرص التصدير.

على الدول العربية تشجيع البحث العلمي على التوسّع في الدراسات المحلّية التي تتناسب مع طبيعة البيئة العربية

أمّا على المستوى الدولي، فقد حقّقت دول مثل هولندا وألمانيا وفرنسا تقدّمًا هائلًا في هذا المجال حيث تمّ تقليل استخدام المبيدات الكيميائية بنسبٍ تزيد على 70% في بعض الزراعات، من خلال استراتيجياتٍ بيولوجيةٍ متكاملةٍ، بخاصة أنّ الطلب العالمي على المُنتجات العضوية الآمنة يجعل الحاصلات الناتجة من نُظُم المقاومة البيولوجية ذات ميزاتٍ تنافسيةٍ أعلى في الأسواق الدولية.

من هنا ينبغي على الدول العربية الرّاغبة في توفير المنتجات الغذائية الآمنة، سواء للأسواق المحلية أو للتصدير، أن تتبنّى التكنولوجيات الجديدة في مجال المقاومة البيولوجية للآفات الزراعية، والعمل على استبدال المبيدات الكيميائية بتلك الطرق الآمنة، حفاظًا على صحة المزارعين والمستهلكين، وكذلك الحفاظ على البيئة الزراعية من واحدة من أهم الملوّثات. ولن يتحقّق ذلك إلّا من خلال الدعم الحكومي اللّازم لانتشارها والعمل على توعية المزارعين بأهميتها، وكذلك تشجيع البحث العلمي على التوسّع في الدراسات المحلّية التي تتناسب مع طبيعة البيئة العربية، بما يحقّق التوسّع والاستدامة في هذا المجال ليكون حجر أساسٍ في التطوير الزراعي بالمنطقة العربية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن