أنتجت القارة الأوروبية نحو 202 مليار متر مكعب من الغاز عام 2024، بينما بلغ استهلاكها منه نحو 451 مليار متر مكعب في العام نفسه، أي أنّ هناك عجزًا قدره 249 مليار متر مكعب. وكان حجم الواردات الأوروبية من الغاز الروسي قد بلغ نحو 205 مليار متر مكعب عام 2019، وتراجع في ظلّ التوتّر السياسي إلى 155 مليار متر مكعب عام 2021، وتراجع إلى مجرّد 55 مليار متر مكعب عام 2024 في ظلّ العقوبات التقييدية بعد بدء الحرب الروسية - الأوكرانية.
كما اضطرّت أوروبا لتقليل استهلاكها من الغاز الذي انخفض بمقدار 74 مليار متر مكعب عام 2024، مقارنةً بحجم الاستهلاك عام 2021، بعد ارتفاع تكلفة استيراد الغاز المُسال. وإمعانًا في الغباء، تواطأت أوروبا وقامت بالتعتيم على جريمة تدمير "خط السيل الشمالي 2" الذي كان من المفترض أن يُضاعف كمّية الغاز الروسي الرخيص المتّجه إلى ألمانيا ودول أوروبية أخرى.
توسّعت روسيا في تسوية تجارتها الخارجية مع العديد من الدول من خلال العملات المحلية من دون الحاجة إلى الدولار
وفي السياق نفسه، تمّ فرض عقوباتٍ تقييديةٍ على صادرات روسيا من الأسمدة والحبوب، فضلًا عن العقوبات الأخرى على الشركات والأشخاص والجهاز المصرفي وارتباطه بنظام "السويفت" العالمي الخاضع للهيمنة الغربية. وكانت العقوبات على صادرات الأسمدة الروسية مُضرّةً لقطاع الزراعة في أوروبا، حيث تبلغ حصّة روسيا ومعها روسيا البيضاء، نحو 40% من صادرات العالم من أسمدة البوتاسيوم التي تتمتّع بأهميةٍ خاصةٍ لنضج ومواصفات الفاكهة والخضروات.
وإزاء العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية، عزّزت روسيا ارتباطها باقتصادات مجموعة "بريكس" والعديد من الدول النّاهضة عبر خلق مصلحة كبيرة لتلك الدول في استيراد السلع الروسية وبخاصةٍ النفط والغاز والفحم والحبوب والأسمدة والأخشاب ومُنتجات الورق والمعادن.
خصومات في أسعار الطاقة ومسارات وخطوط أنابيب جديدة لتعزيز صادرات روسيا
قدّمت روسيا خصوماتٍ كبيرةً لدولٍ مستوردةٍ رئيسيّةٍ للنفط والغاز الروسيَيْن مثل الصين والهند، بحيث يكون سعر النفط مُعادلًا أو يقلّ عن سقف الـ 60 دولارًا للبرميل الذي حدّدته أوروبا كسعرٍ للنفط الروسي، ممّا سمح للهند بالتوسّع في تكرير النفط وتصديره كمنتجاتٍ وتحقيق أرباح كبيرة من تلك العملية، بخاصة بعد أن تمّ التوسّع في نقل التجارة إلى الهند عبر ممرّ "شمال - جنوب" الذي يبدأ من روسيا ويمرّ عبر أذربيجان إلى ميناء بندر عباس في جنوب إيران، ومنه يتّجه بحريًا إلى الهند.
وتوسّعت روسيا في تصدير الغاز الطبيعي إلى الصين عبر خط "قوة سيبيريا 1" ليصل إلى طاقته القصوى البالغة 38 مليار متر مكعب في العام، وسوف يتمّ تشغيل قناة ثانية له عام 2027 لزيادة التوريد عبرهما إلى 56 مليار متر مكعب سنويّا. كما تمّ توقيع اتفاقٍ ملزمٍ بين شركة "غازبروم" (Gazprom) الروسية وشركة "تشاينا ناشيونال بتروليوم" (China National Petroleum) الصينية لبناء خط "قوة سيبيريا 2" لنقل الغاز الروسي إلى الصين بطاقةٍ سنويةٍ تبلغ 50 مليار متر مكعب.
كما توسّعت روسيا في تسوية تجارتها الخارجية مع العديد من الدول وعلى رأسها الصين ودول "بريكس"، من خلال العملات المحلية من دون الحاجة إلى الدولار. كما قدّمت منحًا كبيرةً من الحبوب إلى دولٍ أفريقيةٍ فقيرةٍ، وعمّقت تعاونها العسكري معها، بما زاد من مساحة حلفائها في القارّة السمراء. وعملت على جذب استثمارات من الصين والهند ودول أخرى لتحلّ محلّ نظائرها الأميركية والأوروبية التي انسحبت من السوق الروسية.
زيادة هائلة في التجارة بين روسيا وكلّ من الصين والهند
أدّت السياسات الروسية لمجابهة العقوبات الأوروبية والأميركية إلى ارتفاع قيمة التجارة الروسية - الصينية من 147 مليار دولار عام 2021، إلى 190 مليار دولار عام 2022، وواصلت الارتفاع لتبلغ 240.1 مليار دولار عام 2023، وارتفعت إلى 244.8 مليار دولار عام 2024، منها صادرات روسيّة قيمتها 129.3 مليار دولار، وواردات روسيّة قيمتها 115.5 مليار دولار. أي أنّ تلك التجارة زادت بنسبة 66.5% خلال ثلاثة أعوام. وتحقّق روسيا فائضًا تجاريًا بلغت قيمته 3.8 مليارات دولار في تجارتها مع الصين عام 2024.
تطور التجارة بين روسيا والصين والهند يبرّر حنق ترامب
كما تضاعفت التجارة الروسية - الهندية لتبلغ 70.6 مليار دولار عام 2024، منها 65.7 مليار دولار صادرات روسية إلى الهند وهي تتكوّن بالأساس من النفط والأسمدة، وواردات روسية قيمتها 4.9 مليارات دولار، وهي تتكوّن من الشاي والتوابل والمنسوجات والأدوية والمنتجات الغذائية. وتحقّق روسيا فائضًا تجاريًا بلغت قيمته 60.8 مليار دولار عام 2024. ويستهدف البلدان الوصول بالتجارة بينهما إلى 100 مليار دولار عام 2030. وعلى صعيد الاستثمار، ارتفع عدد الشركات الهندية العاملة في روسيا من 312 شركة عام 2021، إلى 1030 شركة عام 2024.
وذلك التطور في التجارة بين روسيا وكلّ من الصين والهند يبرّر حنق ترامب عليهما، إذ أشار إلى أنّهما الداعم الرئيسي للحرب الروسية ضدّ أوكرانيا، لكنّه لا يدرك أنّه سواء اندلعت الحرب أم لا، فإنّ ذلك التطوّر كان سيحدث لأنّه يُعبّر عن توافق قوائم صادرات وواردات تلك الدول، بما يعزّز تطوّر التجارة بينها، فضلًا عن توحّدها على ضرورة بناء نظام سياسي واقتصادي عالمي جديد مُتعدّد الأقطاب يحترم قدراتها، ويُنهي هيمنة القطب الأميركي والغربي.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")

