وجهات نظر

الوحـــدة وثـقافــتُـها (2/2)

ما نعنيه بثـقافـة الوحدة هـو ذلك المركَّـب المـؤلَّـف من شكـليْـنِ من التّعبير ولحظـتـيْن هما: "الفـكـر" و"الخطـاب"؛ وهما مختلفـان في التّـكوين والطّبيعة وإن تكامـلا في الوظيفة:

الوحـــدة وثـقافــتُـها (2/2)

فكـر الوحدة هـو، بالتّـعريف، "نـظريّـتُها": أي تصوُّرُها من حيث "كلّـيّـتُها"، ومن حيثُ "هندسةُ" عمرانها. من غير هذه النّـظرية، لا سبيل إلى صـوْغ مشروعٍ لتحقيق الوحـدة؛ فالمشروع الفكريّ هو الذي يجعل من فكرة الوحدة إمكـانًا تاريـخيًّـا، أو يقيم عليها - عكـسًا - الحُـجّـةَ من موانعها والكوابـح؛ وأيُّ مشروعٍ سياسيّ للتّـوحيد لا يَـبْـني على تلك النّظرية أو لا تَـتَـنَـزَّل منه هـذه منزلـةَ الإطار المرجعيّ ذاهـبٌ، حكمًا، إلى الخبْـطِ في الفراغ من غير بُوصلةٍ يسترشد بها. إنّـه أشبهُ ما يكون بإنشاء عمارة ضخمة من غير أساساتٍ ومداميـك، ومن غير تخطيطٍ هندسيّ لها! والنّـتائجُ، في الحالين، معـروفةٌ سلفًا...

ثـقافةُ الوحدة مزيـجٌ من المعرفـة والثّـقافة السّياسيّـة في الآن عينـه

أمّا الخطابُ فهـو كنايـةٌ عن تصريفِ مضمونِ النّظريـة تلك (= الفكـر) في صورة لغـةٍ سياسيّـةٍ قابـلةٍ للتّـداوُل العموميّ، ومُـجَنَّـدةٍ لتكوين رأيٍ عام حول الفكرة التي يحملها ذلك الخطاب. والهـدف من الخطاب كَـسْبُ تأيـيـد المتـلـقّـي (= الجمهور) للفكرةِ مَـدارِ الخطاب، وتعزيزُ صـفّ المدافعين عنها وربّـما تجنيدُهـم في مشروعها السّياسيّ. وقد تحملُ الخطابَ جماعـاتٌ ومؤسّسات تـتـعَهّـدُهُ بالنّـشر والإفشاء في المحيط الاجتماعيّ، ومن ذلك ما اعتادت أن تنهض به التّـيارات السّياسيّة والأحـزاب والتّنظيمات والجمعيّـات والمنتديات الخاصّـة (وإنْ كانتِ الحالُ حالَ سلطةٍ حاملةٍ للفكرة، كانت أجهزتُـها من يتعـهّـدُهُ بالنّـشر والتّعميم)؛ كما قـد يحملُه أفراد غير منتمين إلى أطـرٍ ومؤسّسات (= مثـقّـفـون مستـقـلّـون).

في كـلّ حال، ليس من خطابٍ يمكن أمـرُه من دون أن يستـبقَـه في الوجود فكـرٌ يؤسّـس له الأهـدافَ والموضوعات Thèmes ويُـمَـرْحِـل له مراحل الإنجاز، بما هو خطابٌ لمشروعٍ سياسيّ فاعـل. يكون الخطاب في هذه الحال خطابًا حَـرَكيًّـا، أي خطاب حركة عاملة في الميدان، ولسانًا ناطقًا باسم المشروع. أمّا إنْ حَصَـل ووُجِـدَ خطـابٌ في الوحـدة غيرُ مقتـرِنٍ بمشروعٍ سياسيٍّ حـيّ، فالمفهوم من ذلك أنّ المشروع السّياسيّ متعذّرُ الوجود لأسبابٍ عـدّة منها - قطـعًا - غيابُ المشروع الفكريّ الذي يؤسِّـس له. وقد يظلّ خطابُ الوحـدة يقـتات من فكـر الوحـدة، على بُعْـدِ عـهْـدِ الأوّل بالثّاني، لكنّه الاقـتياتُ الذي لا يبْـلُغ مَبْـلغَ الغِـذاء لِـمَا بات يعتريـه من قصورٍ مع الزّمن، وعـدمِ تأقْـلُـمٍ فعّـال مع تيّارات التّحـوُّل في الواقـع.

يجب نقـل المُعطى الفكريّ من حيّـز النّخـبة إلى أحيازٍ اجتماعيّـةٍ أوسع

ثـقافةُ الوحدة، بهذا المعنى، مزيـجٌ من المعرفـة والثّـقافة السّياسيّـة في الآن عينـه. بيانُ ذلك أنّ الوحـدةَ نفسَـها طِـلْـبَةٌ سياسيّـةٌ لا سبيل إلى تحقُّـقها إلاّ من طريق السّياسة والعمل السّياسيّ؛ سواء قام بـه حـركةٌ اجتماعيّـةٌ أو حـزبٌ أو نـظامٌ سياسيّ. ولكنّها هـدفٌ يحتاج، لكي تنهض به قـوّةٌ اجتماعيّـةٌ - سياسيّـة، إلى أن يتـبلور في معـرفـةٍ: معرفة لِـكيف تكون الوحـدةُ ممكنـةً، وما هي مواردُها المُتاحـة والموارد التي ينبغي استيلادُها، وما عوائـقُها، وما العوامل الرّئيس والعوامل المساعِـدة المطلوبة لإنجازها، وما الأطوار والحلقات التي على عمليّـة الوحدة أن تمـرّ بها، ناهيك بمعرفة قواها الاجتماعيّـة وأطُـرها السّياسيّـة والدّستوريّـة... إلخ. هذه أسئلة ومعضِـلات لا تجيب عنها الإيديولوجيا (= الخطاب)، بـلِ الفكـرُ وحـدَه الذي يقـدّم عنها إجابات، قبل أن تُـسْـتَـثْـمَر نتائجُـه في خطـابٍ حركـيّ يتكـرّس بدوره لمهمّـةٍ جليلة: نقـلُ المُعطى الفكريّ من حيّـز النّخـبة إلى أحيازٍ اجتماعيّـةٍ أوسع وتصييـرُه ثـقـافـةً عـامّـة.

نحن، إذن، أمام مطلبٍ لا يتـحقّـق لمجـرّد الرّغبـة في تحقيقه، ولا لمجـرّد توافُـر إرادةٍ لذلك، بـل من خلال مشروعٍ متكامـلٍ ومتعـدِّدِ الحلقات تشتـرك في إنتاجـه فئـاتٌ شتّـى من مواقـعَ مجتـمعيّـة عـدّة.


لقراءة الجزء الأول: الوحـــدة وثـقافــتُـها (2/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن