إسرائيل راهنت على أنّ الضغط الهائل على المدنيين في غزة بما في ذلك سلاح التجويع سيدفعهم إلى التمرد على حركة المقاومة حماس. لكن الواقع كان مختلفا ولا يزال. رغم كل المعاناة، رغم كل الدمار، رغم كل الخسائر، رغم الجوع والموت. شعب الجبّارين صامد، والمقاومة قادرة على فرض شروطها حتى في أصعب الظروف.
كيف استطاعت حماس أن تعيد بناء قوتها بهذه السرعة؟ وكيف فشلت إسرائيل في تحقيق أيّ من أهدافها رغم كل الدمار الذي سببته؟ أسئلة حيّرت قادة الصهاينة بعد توقّف إطلاق النار في الهدنة السابقة، التي رافقها تسليم الأسرى مقابل إطلاق سراح الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. وصفوا المشهد بذهول: كيف تنتشر شرطة حماس وقواتها العسكرية في أنحاء قطاع غزة، ويتم استقبالهم كأبطال. "يبدو الجميع بملابس جميلة، سيارات جديدة، منازل قائمة، ربما لم تكن هناك حرب، وكانت مجرد كذبة؟ يبدو أن كل شيء عاد إلى ما كان عليه، بل أفضل". غزة لن تهزم والمقاومة باقية، وسيشاهدون بذهول مرة أخرى أشكال الصمود والبقاء، بما يكسر غرورهم ووحشيتهم في القتل وارتكاب الجرائم المروّعة ضد المدنيين والمجوّعين في قطاع غزة.
يتصور نتنياهو وحلفاؤه أن إدارة ترامب ستواصل جلب الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، وأعطى هذا الافتراض وقودا جديدا للتطلعات التوسعية، أو حتى المسيحانية لليمين الإسرائيلي الصاعد، الذي يأمل أنه بمجرد أن يمحو جيش الاحتلال الإسرائيلي خصومه، قد يدرك كل المعارضين عبثية محاولة هزيمة إسرائيل، ويسعون بدلا من ذلك إلى تحقيق السلام معها. وستعزز إسرائيل قبضتها على الضفة الغربية، ووفقا لبعض شركاء نتنياهو في الائتلاف سيعيش الجميع، أو على الأقل اللاعبون الإقليميون المهمّون، «في سعادة دائمة». فعلا الولايات المتحدة لم تكن يوما وسيطا نزيها، لكنها اليوم تتحول إلى طرف يدير التفاوض بآليات الضبط الاستعماري، حيث تُعدّ الخرائط بالتوافق بين الوفد الإسرائيلي ومندوبي البيت الأبيض، ثم تُعرض على الوسطاء العرب كأمر واقع "إنها دبلوماسية الخرائط الجاهزة".
إسرائيل لم تعد قادرة على فرض شروطها بشكل كامل، بل تضطر إلى تقديم تنازلات شكلية لتفادي انفجار سياسي إقليمي. المفاوضات الجارية محاولة للالتفاف على نتائج المعركة الميدانية، التي أثبتت عجز حكومة نتنياهو عن الحسم، وانكشاف هشاشة الكيان الاستراتيجية، لذلك تحاول حكومة المتطرفين بقيادة مجرم الحرب نتنياهو أن تنقل المعركة اليوم إلى "طاولة الخرائط"، مستعينة بخبرة استعمارية طويلة في التحكم بالفضاء الفلسطيني.
وفي سياق المناورة والتقلب والخداع، وبحافز قوي من جناحه اليميني المتطرف، مازال نتنياهو يتعهّد بمضاعفة جهوده لتحقيق "النصر الكامل"، مهما طال أمد ذلك. بالنسبة إليه مقاومة الدعوات إلى الهدنة، أو وقف حرب الإبادة والتجويع، هي السبيل لإطالة بقائه في السلطة وتجنب محاكمته، بالإضافة إلى مواصلة حرب غزة وإرساء الأساس لوجود أمني طويل الأمد في الجزء الشمالي من القطاع، يعتقد نتنياهو أن السعودية ودول الخليج الأخرى ستوافق في نهاية المطاف على التطبيع مع إسرائيل، مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يتضمن هذا السرد فرض نظام جديد على لبنان، وتحييد وكلاء إيران في العراق وسوريا واليمن، وفي نهاية المطاف القضاء على التهديد النووي والصاروخي لإيران.
ويطمح بعض أعضاء الائتلاف الحاكم الذي يرأسه نتنياهو أيضا إلى دفن احتمالات حل الدولتين إلى الأبد. وفي الوقت ذاته، يشعر رئيس الوزراء بالثقة في أن الولايات المتحدة ستدعمه في رسم مثل هذه الخرائط الجديدة لإعادة تشكيل المنطقة، بما يضمن التفوق الإسرائيلي الدائم، ومواصلة مشروع التوسع والاستيطان. ومع كل هذا، مازال العرب يمنّون النفس بأن تضغط واشنطن على إسرائيل للاعتراف بدولة فلسطينية، متناسين أنها عملت على إدارة الأزمة لعقود، ولمصلحة الكيان الصهيوني، دون أدنى استعداد للتسوية أو الحلّ الفعليّ. ويكفي مساندتها العسكرية المطلقة لإسرائيل في حرب الإبادة والتجويع، وأشكال الاقتلاع من الأرض والمجازر المتواصلة دون شفقة على المدنيين الأبرياء.
كيان توسعي يرغب في الاستيلاء على مساحات واسعة من البلدان المجاورة، على غرار ما يفعله في سوريا منذ سقوط النظام السابق. من الواضح أن تركيا هي القوة الدافعة وراء النظام السوري الجديد، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى علاقاتها القديمة مع هيئة تحرير الشام، وقد ساعدت قادة سوريا الجدد في التخطيط لإعادة الإعمار. ويبدو أيضا أن أنقرة تسعى إلى إبرام اتفاقية دفاعية مع سوريا من شأنها توسيع نفوذ تركيا المتمركز حاليا في الشمال، ليشمل بقية أنحاء البلاد. هذا ما لا تريده إسرائيل التي تقصف وتفعل ما تشاء في سوريا تحت مبررات سخيفة في كل مرة.
وهي تشعر بقلق بالغ إزاء هذا المسار، وينبغي عليها كما جاء في "فورين أفيرز" بذل قصارى جهدها لتجنب المواجهة العسكرية مع تركيا. بمعنى ضمان ألا تتأثر علاقتها مع أنقرة باندفاعها لتعزيز موقعها العسكري في سوريا. فمع تشتت قواتها وتدهور سمعتها الدولية، فإن آخر ما تحتاجه إسرائيل هو عدو جديد. منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر الماضي، اتسمت علاقات إسرائيل بالحكومة الجديدة، التي تتألف في جوهرها من "جهاديين يرتدون بدلات رسمية"، بالتعقيد كما جاء في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية.
الرئيس الجديد أحمد الشرع، الذي عُرف خلال معظم سنوات الحرب الأهلية بالزعيم الإسلامي أبو محمد الجولاني، لم يضع بعد سياسة طويلة الأمد تجاه إسرائيل. في الوقت الحالي، يلاحق فلول النظام السابق، متمتعا بدعم كامل من تركيا، ويعزز علاقاته بسرعة مع الغرب. ويشكو الشرع من استيلاء إسرائيل على الجزء السوري من جبل الشيخ وأجزاء من القسم السوري من مرتفعات الجولان، ولكنه مستعد لدراسة إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام في المستقبل. في المقابل، وحول كيفية إدارة العلاقات مع النظام السوري الجديد، ترى مجموعة من المسؤولين الإسرائيليين، أن على إسرائيل محاولة العمل مع الشرع قبل اعتباره عدوا. لكن مجموعة أخرى، تضم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تعتقد أنه من غير المرجح ظهور حكومة سورية مركزية معتدلة بقيادة إسلامية سنية، وأنّ على إسرائيل الاستعداد للعداء من خلال إنشاء مناطق نفوذ غير رسمية.
في استهانة بالمجتمع الدولي، تواصل إسرائيل الحرب متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بوقفها، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة وتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة. هل يوجد ضعف وعجز أكثر من هذا بالنسبة للمنظومة الدولية، وما يُقال عن شرعية دولية ومرجعيات أممية يُحتكم إليها، تمنع الحرب والجرائم ضد الإنسانية وتحفظ سيادة الدول؟ في المحصلة، مواثيق دولية وقوانين أصبحت بلا أثر، حين يتعلق الأمر بحق شعب مظلوم في العيش بكرامة على أرضه، دون أن يُقصف ويُباد ويتم تجويعه. وتُرتكب في حقه كل المجازر الفظيعة التي ليس لها مثيل في التاريخ أمام أنظار العالم عربا وغربا.
(القدس العربي)