تقدير موقف

سلاح "حزب الله": سؤال لبنان الصعب في الزمن الأصعب!

لم يكن سلاح "حزب الله" في يومٍ من الأيام مجرّد ملف أمني، بل سؤال إجباري مفتوح على كلّ مستويات الأزمة اللبنانية: مَن يملك حقّ الدفاع عن الوطن؟ ومَن يُقرّر باسمه في لحظات المصير؟. في زمنٍ يتقاطع فيه الكباش الداخلي مع اشتباكٍ إقليميّ واسع النطاق، يعود السلاح إلى واجهة الحدث اللبناني لا كظاهرةٍ عسكريةٍ، بل كعلامة استفهام تطال هوية الدولة، وشرعيّة القرار، ومستقبل الصيغة اللبنانية.

سلاح

في لحظةٍ يختلط فيها الخوف بالحرص، ويُستبدل فيها القرار الوطني بتفاهماتٍ مُعلّقةٍ بين الداخل والخارج، يُطرَح سؤال السيادة في لبنان لا كحكمٍ جاهز، بل كإشكاليةٍ مُتجدّدة. هل تُحمى الدولة حين يُعلّق قرارها؟ وهل يُصان الوطن حين تُدار التوازنات بين المكوّنات لا بين المؤسّسات؟.

هذا المقال لا يُدين ولا يُبرّئ. بل يقرأ الواقع كما هو: سلاحٌ يحمل روايةً ذاتيةً، لكنّه يتحرّك في مساحةٍ وطنيةٍ غير محكومةٍ بمؤسّساتٍ قادرة. قضية صارت أصعب من أن تُحسم بشعار، وأدقّ من أن تُدار بمنطق المساومات.

من يملك قرار حماية الوطن؟

في لحظةٍ سياسيةٍ هي الأخطر منذ عقود، يقف لبنان مُجدّدًا أمام سؤال لا يزال بلا إجابة موحّدة: مَن يملك قرار حماية الوطن؟ الدولة، التي يُفترض أنّها المرجعيّة الوحيدة لقرار الحرب والسلم؟ أم المقاومة، التي ترى في سلاحها استمراريةً لدورٍ افتقدته المؤسّسات الرسمية؟

الطائفة لا تُبنى على السلاح والدولة لا تقوم على الإنكار

الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، بكلّ أبعادها الإقليمية والدولية، أعادت خلط الأوراق في الإقليم، وداخل لبنان الذي يواجه اليوم ضغوطًا خارجيةً تُطالب بنزع السلاح، إلى جانب مخاوف داخلية من انهيار الكيان، صار الخلاف على السلاح خلافًا على مستقبل الدولة، وعلى تعريف الوطن نفسه.

لا يمكن الاستمرار في إدارة الدولة عبر موازنة الخوف والشكّ المُتبادل بين الطوائف. الطائفة لا تُبنى على السلاح، والدولة لا تقوم على الإنكار. وإذا كان "حزب الله" يعتبر السلاح جزءًا من هوية المقاومة، فإنّ القوى الوطنية الأخرى ترى أنّ بقاء هذا السلاح خارج إطار الشرعية يُفْقِدُ الدولة قدرتها على ممارسة سيادتها، ويُهدّد الوحدة الوطنية.

المعضلة تتجاوز التفاصيل التقنية، وتلامس جوهر السيادة. في غياب قرارٍ وطنيّ جامعٍ، يغدو لبنان هشًّا أمام أي ضغط، قابلًا للاختراق، عالقًا بين الحسابات الإقليمية والتجاذبات المحلية.

المقاومة حين تتحوّل مشروعًا يرتبط بتحالفات تمتدّ لطهران تجعل لبنان لاعبًا في لعبة أمميّة لا يملك أدوات التحكّم فيها

الأصل أنّه لا يمكن للوطن أن يُحمى بسلاحٍ لا يخضع لسلطة الدولة، ولا أن تتقاسم مُكوّناتُه الحقّ في إعلان الحرب حسب توقيتات منفصلة.

والمرحلة الرّاهنة تستدعي حسمًا لا مراوغة. لبنان بحاجةٍ إلى اتفاقٍ وطنيّ جديدٍ يُعيد ترسيم العلاقة بين المقاومة والدولة، ويُعيد تعريف الحماية كحقٍّ وواجبٍ جماعيّ لا كامتيازٍ خاص.

السلاح ليس مجرّد معدن بل هوية

حين يُقال إنّ السلاح في لبنان مشكلة أمنية، يُختزل صراعٌ عمره عقود إلى بندقيةٍ وقرار. لكنّ الحقيقة أعمق، وجذورها تمتدّ في ذاكرة الجماعة أكثر ممّا تُختزن في الرصاص.

بالنسبة إلى "حزب الله"، السلاح ليس أداةً، بل هوية، وتلك هي المشكلة، إنه سرديّة كاملة عن الظلم، المقاومة، والاجتياح. عن زمنٍ نُسيت فيه الدولة، فتقدّمت الجماعة لتكتب دورها في المعركة. لذلك، لا يُعامَل هذا السلاح كحمولةٍ عسكريةٍ، بل كرمزٍ لكرامةٍ مستعادةٍ، ومكانةٍ مكتسبةٍ في حقل التوازنات الإقليمية.

لكن حين تتحوّل المقاومة إلى مشروعٍ يتجاوز حدود لبنان، يرتبط بتحالفاتٍ تمتدّ إلى طهران، وكانت تصل إلى دمشق وصنعاء وغزّة، لا يعود القرار اللبناني ملكًا للبنانيين وحدهم. يغدو السلاح قوةً تُملي موقفًا خارج مؤسسات الدولة، وتجعل لبنان لاعبًا في لعبةٍ أمميّةٍ لا يملك أدوات التحكّم فيها.

السلاح بلا شرعية وطنية يتحوّل من أداة للحماية إلى عامل لانقسام الهوية

هنا ينهض السؤال، لا بصيغة الخصومة، بل بصيغة المصير: هل يُمكن لوطنٍ أن يتحمّل سلاحًا لا يخضع لقراره، مهما كان نبيلًا؟ هل المقاومة تُصان خارج الدولة، أم تُصادرها؟ وهل يُمكن فصل الرصاصة عن قرار مَن يطلقها، في بلدٍ تحكمه التوازنات أكثر مما تحكمه الدساتير؟.

السلاح بلا شرعيةٍ وطنيةٍ يتحوّل من أداةٍ للحماية إلى عاملٍ لانقسام الهوية. ومن رواية صمودٍ إلى رواية سلطةٍ موازية. والمقاومة، حين لا تُحتضن في مؤسّسات الدولة، قد تُصبح دولةً داخل دولة، مهما كان نبل هدفها، ومهما كان صدق وجدانها.

السؤال الصعب هو: هل الوطن هو مَن يملك السلاح؟ أم مَن يملك الحقّ في اتخاذ القرار باسم الجميع؟

والجواب لا يحتاج إلى شروحاتٍ مُطوّلة، بل إلى شجاعةٍ في الاعتراف بأنّ ما لا يُخضع للمساءلة، لا يُبنى عليه وطن. والمقاومة الحقيقيّة، حين تنتمي إلى الدولة، تُصبح فِعْلًا وطنيًّا جامعًا، لا امتيازًا يُحسَب لفئة دون سواها.

لحظة الحقيقة: نحو عقد وطني جديد

لبنان ليس أمام انفجار سياسي، بل لحظة انكشاف. انكشاف للخلل العميق في بنيان الدولة، وفي صيغة التعايش، وفي التصوّرات حول ماهية الوطن. فالخلاف لم يعد على مَن يملك السلاح، بل على مَن يملك حقّ القرار، ومن يُعبّر عن الوطن في لحظات المصير.

لحظة تاريخية تفرض على الجميع الخروج من صيغة الحُكم بالتفاهمات إلى صياغة الحُكم بالمؤسّسات

"لبنان الواحد" اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فإلى جانب الهواجس الأمنية، برزت أزمة الثقة بين مكوّنات المجتمع، وتفكّكت خطوط التفاهم، وأصبح صوت الطائفة يعلو أحيانًا على صوت الوطن.

هذه اللحظة التاريخية تفرض على الجميع الخروج من صيغة الحُكم بالتفاهمات إلى صياغة الحُكم بالمؤسّسات، ويذكّرني هذا بما كتبه يومًا "غسان تويني": "ليس مطلوبًا أن نُعيد طباعة الميثاق، بل أن نُعيد صناعة المعنى الوطني. أن نخطّ عقدًا جديدًا، لا يُقسّم اللبنانيين إلى جماعاتٍ متقابلةٍ، بل يجمعهم حول سؤالٍ واحد: ماذا يعني أن نحكم أنفسنا؟".

عقد وطني جديد لا يطالب بإزالة المقاومة، بل يطلب أن تُعاد صياغتها داخل مؤسّسات الدولة؛ لا أن تُحكم من خارجها، ولا أن تُختزل في سلاحٍ لا يخضع للقرار الوطني الجامع، كما أنّ الدولة، كي تكون مرجعية، يجب أن تتخلّص من دور الحَكم بين الطوائف، وتتحوّل إلى ضامنٍ للعدالة الوطنية.

لحظة الحقيقة تقتضي مساءلة الجميع: ليس عن الماضي، بل عن قدرة الحاضر على إنتاج مستقبل. فإمّا الاستمرار في إدارة الأزمة بمراوغاتٍ سياسيةٍ، أو إعلان أنّ الوقت قد حان لصياغة لبنان من جديد، لا كما وُلد في اتفاق الطائف فقط، بل كما يجب أن يحيا في ظلّ معادلات السيادة والمواطَنة.

ملاحظات ختامية على هامش الزمن الصعب

لبنان ليس بحاجةٍ لأن يُدار السجال حول الدولة والمقاومة بمنطق الفصل، بل بحاجةٍ إلى إعادة تعريف العلاقة بما يُبقي الوطن حاضرًا، لا مؤجَّلا.

السلاح في ذاتِه لا يُدين، إنّما موقعه في الخريطة الوطنية هو ما يصنع الفرق. أن يكون السلاح رديفًا للموقف الوطني، لا بديلًا عنه؛ أن يخضع لقرارٍ مؤسّساتي يُعبّر عن إرادة المواطنين جميعًا، لا عن انتماءاتهم المنفردة.

الدولة يجب ألّا تكون مجرّد إطار تنظيمي بل جهة اعتبارية تُحتضَن فيها كل أفعال الدفاع

المقاومة، كما قُدِّمت في لحظات المصير، كانت فِعلًا يتجاوز ردّ الفِعل العسكري، لأنّها حملت معنًى يتّصل بالكرامة والوجود. لكن حين يتجاوز دورها مساحة الدولة، أو يُستثنى من مساءلتها، تصبح تلك الكرامة معرّضةً لتأويلاتٍ تُهدّد وحدتها.

والدولة، إذ تُطالب بالسيادة، يجب ألّا تكون مجرّد إطار تنظيمي، بل جهة اعتبارية تُحتضَن فيها كل أفعال الدفاع، وتُمارَس فيها المسؤولية من دون استثناء أو تفويض خارجي.

ما يُطلب اليوم ليس تفكيكًا، ولا تحميلًا لخطاب الخصومة. ما يُطلب هو وضوح: كيف يُصاغ القرار الوطني؟ مَن يملكه؟ ومَن يُحاسَب عليه؟ ليست الأسئلة جديدة، لكنّ تجاهلها هو ما يجعلنا نُعيدها كل مرّة من نقطة البداية.

لبنان في حاجته إلى التسويات لا يعني أن يُدار بمنطق التأجيل، بل أن يُؤسَّس على وضوحٍ يُنهي الالتباس: بين الدولة والمقاومة، بين الطوائف والوطن، بين السلاح والمساءلة.

هذه ليست دعوةً للحسم، بل اقتراح للبناء.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن