تنصب إسرائيل نفسها كحامية للأقليات فتارة تدعم الموارنة في لبنان، وأخرى تدعم حقوق الأقلية الكردية في سوريا والعراق وثالثة تزعم دعم الدول العربية السنية في مواجهة الخطر الشيعي الإيراني والآن تزعم حماية الأقلية الدرزية في سوريا، ولا شك أن هذه الصيحة، لا تعدو أن تكون قناعا إيديولوجيا للتغطية على حقائق الأطماع الإسرائيلية الإقليمية في التوسع والسيطرة على المزيد من الأراضي السورية بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، مثل جبل الشيخ والمنطقة منزوعة السلاح وغيرها من المدن والقرى في القنيطرة ودرعا وامتد التوسع الإسرائيلي إلى السيطرة على السدود المائية القائمة في محافظة القنيطرة والتي تلبى الحاجات المحلية لسكان تلك المناطق، والتي تتراوح سعتها التخزينية بين مليون وأربعين مليون متر مكعب من المياه.
ووفق التصريحات الإسرائيلية فإن احتلال إسرائيل لهذه المناطق الجديدة من سوريا ممتدة لأجل غير محدود، ويندرج في إطار أوسع للسياسة التوسعية الإسرائيلية التي تهدف إلى أن يكون الجنوب السوري بما فيه مدينة السويداء التي تتصدر فيها الأحداث الواجهة وكذلك درعا والقنيطرة منطقة منزوعة السلاح لتأمين شمال إسرائيل وتوفير عمق جغرافي يحظر فيه انتشار قوات الجيش السوري.
هذه السياسة الإسرائيلية التي تتستر بحماية الأقلية الدرزية قد توحي بأن طائفة الدروز في إسرائيل ذات ثقل في صنع القرار الإسرائيلي، فى حين أن العديد من المحللين الدروز فى إسرائيل لا يرون ذلك؛ حيث تم تمرير قانون القومية ومرت جريمة قتل العديد من الدروز دون عقاب وتقاعس الأمن الإسرائيلي عن مكافحة الجريمة في أوساط الطائفة الدرزية وغير ذلك من المؤشرات التي تكشف هشاشة تأثير طائفة الدروز على السياسة الإسرائيلية، من ناحية أخرى فإن زعم إسرائيل حماية الدروز قد يُشير إلى قوة القاعدة الاجتماعية الدرزية التي تطلب حماية إسرائيل، بينما الأمر ليس كذلك بالضرورة؛ حيث تشير كل المعطيات أو أغلبها إلى تفوق التيار الدرزي المؤيد للحوار والتشاور مع الدولة السورية ومؤسساتها إن في السويداء أو في غيرها من المناطق الدرزية.
إسرائيل لا تكترث بغير مصالحها في التوسع والعدوان وتشكيل شرق أوسط جديد تكون فيه هي المهيمنة عليه. التدخل العسكري الإسرائيلي والعدوان الإسرائيلي على سوريا يستهدف تحقيق مبدأ "السيادة السورية المحدودة" للدولة السورية على أراضيها، واستثمار ضعف النظام الجديد للحصول على تنازلات إقليمية لصالح إسرائيل، ربما تتمثل في التفاوض حول مصير الأراضي التي احتلت حديثا بعد سقوط النظام، مقابل عدم التفاوض حول مرتفعات الجولان السورية التي تم احتلالها 1967، وعقد بشأنها اتفاق فض الاشتباك الأول على الجبهة السورية 1974، وتأكيد اعتراف الإدارة الأمريكية بالسيطرة الإسرائيلية على الجولان واعتبارها جزءا لا يتجزأ من إسرائيل في عهد ولاية ترامب الأولى.
ومن المفارقات أن إسرائيل في احتلالها للأراضي السورية بعد سقوط النظام يبدو أنها استندت إلى ما عبر عنه ترامب لنيتانياهو أثناء مقابلته في واشنطن من دهشته ومفاجأته من عدم استغلال إسرائيل للوضع واحتلال أراض جديدة في الجولان السورى، عقب سقوط نظام الأسد، وهكذا ففي الحالين أي الإبقاء على الجولان تحت السيطرة الإسرائيلية واحتلال أراض سورية جديدة، ترتكزان على دعم الولايات المتحدة الأمريكية للتوسع الإقليمي الإسرائيلي ودعم نتائج سياسة القوة الإسرائيلية.
غير أن العدوان الإسرائيلي على سوريا وفي السويداء ضد الجيش السوري، ربما يأتي بنتائج عكسية أي يسهم في تشويه صورة الطائفة الدرزية أو على نحو خاص ذلك التيار الذي يطلب الحماية الإسرائيلية، ويعوق اندماجه فى إطار الهوية السورية، فى حين أن عموم الدروز في سوريا ولبنان يؤكدون أنهم مواطنون عرب، لهم ما للعرب من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات وأنهم يستلهمون في ذلك ثورة 1925 بقيادة الزعيم الوطني الدرزي سلطان باشا الأطرش في مواجهة الاحتلال. تعتبر مدينة السويداء ملتقى لكافة تناقضات الأوضاع السورية؛ التناقض بين التطلع إلى الدولة والفوضى الضاربة، بين القومية والطائفية، وبين المركز والهامش، وبين الأغلبية الدرزية في هذه المدينة والأقليات من البدو والعشائر العربية.
وتعاني هذه المدينة من آثار تعامل النظام القديم معها عندما كان يستقطب البدو في مواجهة الدروز وقمع تمرداتهم، وفضلا عن هذه التناقضات فإن ثمة الانقسام بين الدروز أنفسهم، وبين التيار الذي يدعم وجود وحضور الدولة السورية ومؤسساتها وهو بالمناسبة التيار الغالب، وبين ذلك التيار الذي يقف ضد الدولة ويطلب حماية دولية. مدينة السويداء تمثل في الواقع مختبرا واختبارا للدولة السورية والنظام الجديد، وإن نجحت الدولة في احتواء هذه التناقضات والانقسامات في إطار استراتيجية وطنية شاملة تكفل تحقيق المساواة والكرامة والمواطنة من خلال التشاور والحوار فسوف تنجح في بقية المناطق والأقاليم السورية.
الوحدة الوطنية وتدعيم المواطنة والتمثيلية والمساواة، هي الأسلحة التي يمكنها أن تمكن سوريا من الصمود في وجه المخططات والمؤامرات التي تقوم إسرائيل بنسج خيوطها مع الحليف الأمريكي، خاصة مع الموقف الرسمي الخجول في المواجهة مع إسرائيل والذي يتذرع بالمرونة والاعتدال، في حين أن إسرائيل تكشف عن أنيابها وتتباهى بقوتها وعضلاتها وتقوم بابتزاز النظام وفرض قيود على حكمه وسيادة سوريا على أراضيها.
الدولة الوطنية العربية في مواجهة هذا التحدي يجب أن تطبق وبحسم مبادئ المواطنة والسيادة والمساواة بين المواطنين والتوزيع العادل للموارد بين كافة المناطق والأقاليم بصرف النظر عن هوية المواطنين الطائفية، والدينية، وهذا التحدي والنجاح في مواجهته قد يفضي إلى نسخة جديدة من الدولة الوطنية قادرة على حرمان الجهات الأجنبية والتدخلات الدولية من ذريعة حماية الأقليات.
(الأهرام المصرية)