إنّ مواقفنا اليوم إزاء كثير من القضايا العملية تبدو أكثر رجعية عمّا كانت قبل قرن مضى، فما بدا محسومًا منها آنذاك لم يعد كذلك، فمن كان يتصوّر حينما بُنيت مدرسة الفنون الجميلة أوائل القرن العشرين أن يأتي من يحرّم الرسم والنحت فى مطلع الحادي والعشرين. ومن كان يتخيّل فى ستينات القرن الماضي أنّ لباس المرأة سيعود هاجسًا بعد أكثر من نصف قرن، وبعد أن كانت بعض زوجات شيوخ الأزهر يرتدين الزيّ المحتشم دون غطاء رأس كعموم المصريات، أصبح غطاء الوجه نفسه (النقاب) يجد أنصارًا يدافعون عنه. ناهيك عن فوائد البنوك التي لا يزال البعض يصمها بالربا ويدعو إلى أنظمة ادخار بديلة لا تتمايز عنها سوى فى مسمّياتها، وفى المقابل تفضي إلى كوارث من قبيل شركات توظيف الأموال. وعلى منوالها تذوق الفنون السمعية والبصرية كالأغاني والموسيقى الذي بات البعض يراه رجسًا من عمل الشيطان. وغير ذلك كثير من قضايا فكرية وعملية بدت محسومة لكنها عادت مجددًا لتكشف عن ترددنا وتراجعنا.
لم تصدر محاولات نهوضنا الحديث عن حركة ذاتية بل في سياق دفاعي حَكَمَتهُ الرغبة العارمة في اللحاق بالغرب
حدث ذلك لأننا عجزنا عن إنجاز النهضة واكتفينا بتداول فكرها، ولأنّ التاريخ الإنساني بطبيعته ديناميكي، فمن لا يتقدّم فيه محكوم عليه بالتخلّف، وهو حكم يطال الفكر الذي يتعاطاه. أما عجزنا النهضوي نفسه فيرجع إلى تبعية فكر النهضة العربي لنظيره الأوروبي، حيث سار خلفه يحاكيه ويتمثّله فوقع في إشكالاته من دون أن يمتلك قدرته نفسها على الحسم، فالحسم سمة للفكر الرائد والتردّد قدر الفكر التابع.
كانت النهضة الأوروبية بمثابة ظاهرة تلقائية في التاريخ، حركة مستقلة في أفق مفتوح امتدّت في قرنين: الرابع عشر والخامس عشر، تليا العصر المدرسي خروجًا من أفق العصور الوسطى المتأخرة، وفلسفتها المدرسية التي صاغها عناق لاهوت القديس توما الأكويني مع منطق أرسطو الصوري. وفي المقابل، لا يمكن لأحد أن يدّعي بمثل تلك الاستقلالية لحركة النهضة العربية، فقد توارت تقريبًا الدوافع الداخلية للتغيير فى ظل الحكم العثماني البليد، ولم تصدر محاولات نهوضنا الحديث عن حركة ذاتية لتجربة تاريخية تتطوّر بثقة واستقلال بل في سياق دفاعي حَكَمَتهُ الدهشة والخوف والرغبة العارمة في اللحاق بالغرب، الذي مكّنته سطوته الفكرية من فرض تحيّزاته علينا في أمرين أساسيين؛ أولهما يتعلّق بتحقيب التاريخ في ثلاثة عصور انطلاقًا من رؤيته لتطوّره الذاتي: القديم المتمثّل في العهدين اليوناني والروماني، وقد اعتُبر عصر تأسيس الفكر الغربي. والوسيط الذي سادته المسيحية، واعتُبر عنوانًا على الركود والجمود. ثم الحديث حيث النهضة والاستنارة والعلمنة والديمقراطية.
اعترف الإمام محمد عبده بتخلّف المسلمين لكنه سعى إلى تفسير ذلك بسوء فهم الإسلام
هذا التحقيب يبقى موضوعيًا فقط في سياقه الغربي ولكنه يصير زائفًا تمامًا في السياق العربي، حيث يتجسّد عصر النهضة العربي في عهد انبثاق الإسلام وتوسّع دولته طيلة القرون الأربع الهجرية الأولى، وهو ما يواكب القرون بين السابع والحادي عشر الميلاديين، أي قلب العصر الوسيط (المسيحي)، الذي يرتبط في الذهن بسمات الجمود والانغلاق والتخلّف الأوروبي، ما يعني فقدان الفكر العربي لتاريخيّته، النابعة من تطوّره الذاتي.
أما الثاني فيتعلق بالتفسير الديني لتخلّف العالم العربي، والذي ركّز عليه تيار المركزية الأوروبية وعلى رأسه مفكرون من طراز أرنست رينان منظّر العرقية الدينية واللغوية، ووزير الخارجية الفرنسي هانوتو الذي ساجله الإمام محمد عبده، نافيًا ما ادعاه الرجل من وجود علاقة شرطية بين الإسلام والتخلّف. اعترف الإمام بتخلّف المسلمين، ولكنه سعى إلى تفسير ذلك بسوء فهم الإسلام وليس بالاعتقاد الإسلامي نفسه. وهكذا يتبدّى كيف أنّ وعي الإمام عبده كان محكومًا بالإشكالية التي فرضها الخطاب الأوروبي، وإن حاول تبريرها.
(خاص "عروبة 22")