سيتعيّن على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتظار نظيره المصري، لكن بعد إعلان فوز الأخير المحتوم بالانتخابات الرئاسية المقبلة، فقد فضّل السيسي أن تتمّ زيارته المرتقبة إلى أنقرة... بعد حين.
القرار غير المعلن، يصبّ، بحسب مصادر مصرية، فى خانة تململ الإدارة المصرية من طريقة إدارة أردوغان لسياساته فى الملفات الاقليمية وعلى رأسها الملف الليبي، وتصعيده للتواجد الرسمي والمباشر لقوات عسكرية تركية على أراضي ليبيا.
تنظر القاهرة بعين الغضب إلى اعتزام أردوغان زيارة ليبيا، وتعتبرها خطوة من شأنها إعادة التوتر إلى وضعه مع أنقرة.
سمحت الاتصالات المصرية التركية في السابق، بتبادل الطرفين للمصالح فى ليبيا، فى إطار برجماتي تُحرّكه المصالح الاقتصادية، بحيث بات بإمكان السفير التركي كنعان يلماز أن يتجوّل بحرية فى بنغازي شرق ليبيا، مقابل حرية حركة نسبية للقائم بالأعمال المصري فى طرابلس تامر مصطفى، مع ما يعنيه ذلك من اتصالات سياسية وأمنية وتجارية.
وخفّف حلفاء مصر فى الشرق الليبي من نبرتهم المعادية لتركيا، بينما بات بإمكان حلفاء تركيا فى الغرب الليبي زيارة القاهرة.
كان يفترض أن تقلّص تركيا هذا التواجد فى العاصمة الليبية طرابلس ومدينة مصراتة غرب البلاد، بالإضافة إلى القاعدة العسكرية لميناء الخمس البحري، وأن تنهي جيش المرتزقة السوريين الذين جلبتهم للقتال ضد قوات الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر منذ عام 2019.
وعلى الرغم من انتهاء الحرب الفاشلة، التى شنّها حفتر لتحرير طرابلس من قبضة الميلشيات المسلّحة التي تسيطر على كل مفاصل الدولة الليبية، بعد إعلان السيسي خط (السرت-الجفرة) كخط أحمر لعبور القوات الموالية لتركيا، باعتباره يمثّل خطرًا حقيقيًا على الأمن القومي المصري، فانّ أردوغان لجأ في المقابل إلى الضغط على القاهرة باستخدام الورقة الليبية.
تعتقد أوساط ليبية مطّلعة أنّ المناكافات بشأن ليبيا بين القاهرة وأنقرة، تعبير عن أزمة حقيقية فى العلاقات الثنائية، بما تفرضه من تداعيات إقليمية.
لا يقف التشابك المصري - التركي عند حدود ما هو ثنائي فقط، بل يمتدّ إلى ملفات إقليمية لا زالت تبحث عن حلّ، لانهاء عقد كامل من القطيعة بين الطرفين.
وما بين تحذيرات بصحوة متأخرة جدًا أو بيانات وهمية، هدّدت مجموعة ليبية مسلّحة مجهولة الهوية بمقاومة "الاحتلال التركي" للبلاد، ودعت في بيان إلى "انتفاضة شعبية مسلّحة ضدّ التواجد العسكري التركي".
ووفقًا لهذا البيان، فقد أصبحت جميع المواقع والمعسكرات التركية في ليبيا (قاعدة الوطية، وميناء سيدي بلال، وميناء الخمس البحري) هدفًا مشروعًا، باعتبارها "خطوات أولى للاستيطان والاستعمار ومحاولة إرجاع ليبيا إلى الحقبة الاستعمارية التركية".
ومع أنّ الجيش الوطني المتمركز في شرق البلاد بقيادة المشير خليفة حفتر المعروف بعدائه لتركيا، قد التزم الصمت ولم يعلّق على هذا البيان، لكنً مسؤولًا رفيع المستوى في الجيش أعرب فى المقابل عن مخاوف من أن يكون هذا البيان هو نتاج لما وصفه بـ"عمل مخابراتي تركي إخواني"، لافتًا إلى أنّ الهدف من هذه الخطوة هو امتصاص غضب الشعب الليبي وإحباط قدرته على التحرّك عبر الإيحاء بوجود مقاومة وهمية للتواجد العسكري التركي.
واعتبر المسؤول نفسه أنّ البيان يعكس "شعور الأتراك وحكومة الوحدة بالخطر في هذه المرحلة"، فى ضوء رصد رسوّ بوارج تركية في ميناء الخمس الواقع شمال غرب البلاد، مّا عزّز الشكوك بشأن قيام حكومة عبد الحميد الدبيبة بالتنازل عن الميناء لصالح تركيا من أجل تحويله إلى قاعدة عسكرية.
ووفقًا لمصادر فى ميناء الخمس، فإنّ هذه المجموعة العسكرية لا تنتمي إلى أي كيان عسكري أو أمني شرعي فى البلاد، مشيرةً إلى أنّ "عناصرها من الذين تم تضييق الخناق عليهم مؤخرًا فيما يتعلّق بأنشطة الهجرة غير الشرعية والتهريب والنهب وسحبوا صلاحياتهم، والآن يريدون إخراج الأتراك، وهم من خانوا الجيش أكثر من مرّة".
وكانت وسائل إعلام محلية ليبيبة، قد أكدت أنّ بارجتين محمّلتين بعشرات البحّارة والجنود الأتراك القادمين من إحدى القواعد البحرية جنوب تركيا، دخلت ميناء الخمس شرق طرابلس رغم نفي حكومة الدبيبة، فيما تم إغلاق الميناء أمام مداخل السفن التجارية. ورصدت استمرار عمل السفن الحربية التركية من شواطئ الميناء، حيث بثّت لقطات مصورة لدخول بارجة حربية تركية. وتداول ناشطون وسكّان محليون صورة للفرقاطة التركية وهي تدخل ميناء الخمس البحري الذي اختفت منه السفن التجارية، فيما اعتبروه بمثابة "رسالة واضحة للكثيرين الذين صدّقوا بسذاجة خطاب حكومة الوحدة".
وقالت مؤسسة "سلفيوم" للدراسات والأبحاث إنّ سفينة الإنزال التركية كانت تحمل طائرات بدون طيّار، بينما تردّدت معلومات غير رسمية عن نقل حوالى 200 مرتزق سوري من معسكر سيدي بلال بمنطقة جنزور إلى قاعدة الخمس التركية البحرية، بسبب مخاوف من تعرّضها لهجمات السكّان المحليين.
واعتبر محلّلون أنّ توسيع تركيا حضورها العسكري في ليبيا يمنحها قدرة على دعم حلفائها، ويحيّد بشكل كبير المشاركة المُباشرة لأي قوى خارجية، ما يعني تحوّل الأراضي الليبية لمنطقة استنزاف وحرب بالوكالة ما يبقي على الانقسام وتبعاته.
في الخلاصة، قد يكون من الصحيح أنّ تعافي العلاقات التركية - المصرية مرتبط ببقاء أردوغان والسيسي في السلطة وضبط مسار المنافسة الإقليمية بينهما، لكن الصحيح أيضًا أنّه حتى يدرك الطرفان أهمية الحفاظ على اتصالات ثنائية مباشرة وشفافّة، ستظلّ ليبيا ساحة غير معلنة لتبادل الرسائل بين القاهرة وأنقرة إلى أجل غير مسمى.