بصمات

اللُّغةُ العَرَبِيَّةُ في يَوْمِها العالَميّ!

أَصْبَحَ اليَوْمُ العالَمِيُّ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مِن أَجْمَلِ أَيّامِنا التي نَحْتَفِلُ بِها كُلَّ عام، في الوَطَنِ العَرَبِيّ. فَفي شَهْرِ أُكتوبَر/تِشْرينَ الأَوَّل عامَ 2012، تَقَرَّرَ عِنْدَ انْعِقادِ الدَّوْرَةِ 190 لِلمَجْلِسِ التَّنْفيذيِّ لِليونِسْكو تَكْريسُ اليَوْمِ الثَّامِنِ عَشَرَ مِن شَهْرِ ديسَمْبِر/كانونَ الأَوَّلِ مِن كُلِّ عامٍ يَوْمًا عالَمِيًّا لِلُّغَةِ العَرَبِيَّة. واحْتَفَلَتِ اليونِسْكو لِلمَرَّةِ الأولى بِهذا اليَوْمِ في تِلْكَ السَّنَة، وهو اليَوْمُ نَفْسُهُ مِن عامِ 1973 الذي أَصدَرَتْ فيهِ الجَمْعِيَّةُ العامَّةُ لِلأُمَمِ المُتَّحِدَةِ قَرارَها رَقمَ 3190، والذي يوصي بِجَعْلِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ ضِمْنَ اللُّغاتِ الرَّسْمِيَّةِ السِّتِّ في الأُمَمِ المُتَّحِدَة.

اللُّغةُ العَرَبِيَّةُ في يَوْمِها العالَميّ!

إنَّهُ لَشَرَفٌ عَظيمٌ أنْ يَكونَ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ العَريقَةِ مَكانَةٌ عالَمِيَّةٌ مُتَجدِّدَة، بِهذا الاعْتِرافِ والاعْتِزازِ الدَّوْلِيّ، وهي التي لا شَكَّ تَحْظى بِمَكانَتِها التَّاريخِيَّةِ والحَضارِيَّةِ مُنْذُ القِدَم، كَوْنَها وَصَلَتِ العالَمَ القَديمَ بِالحَديث؛ ولَوْلا اسْتيعابُ العَرَبِيَّةِ لِلعُلومِ والمَعارِفِ المُتَنَوِّعَةِ التي قَدَّمَها العَرَبُ والمُسْلِمونَ إلى البَشَرِيَّةِ لَمّا كانَت هُناكَ حَضارَةٌ غَرْبِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ في هذا الزَّمان. إنَّ لُغَتَنا العَريقَةَ هي التي كانَت ذاتَ يَوْمٍ لُغَةً مَسْكونِيَّة، أيْ لُغَةً ثَقافِيَّةً عالَمِيَّة، قَدَّمَتْ أَهمَّ سُبُلِ النَّهْضَةِ الإنْسانيَّةِ الحَديثَة.

المحتوى الرقمي العربي لا يكاد يتجاوز نسبة 1% من المحتوى الرقمي العالمي

وكَما أنَّها لُغَةُ العَقْلِ والفِكْر، فهي أَيْضًا لُغَةُ القَلْبِ والرّوح، أَنْزَلَ بِها اللهُ عَزَّ وَجَلَّ القُرْآنَ الكَريم، وأَنْجَزَ بِها مُبْدِعونا على مَرِّ التّاريخِ إبْداعاتِهِم المُتَنَوِّعَةَ في كُلِّ أَدَبٍ وفَنٍّ وعِلْم، تُراثًا عَظيمًا يُجَلُّ عنِ الحَصْرِ والتَّقَصِّي. الأَمْرُ الذي يَجِبُ أن يُشْعِرَنا بِحَجْمِ المَسْؤولِيَّةِ المُلْقاةِ على عاتِقِنا، لِلاهْتِمامِ بِـلُغَتِنا العَظيمَة، وأن تَتَكاتَفَ الجُهودُ العَرَبِيَّةُ لِذَلِك، خاصَّةً في مَجامِعِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّة، ومُؤَسَّساتِ التَّعْليمِ والبَحْثِ العِلْمِيّ، والإِعْلام، ودورِ النَّشْر، وغَيْرِها؛ لِتَعْمَلَ على نَهْضَةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ في هذا العَصْرِ التِّقْنيِّ المُتَقَدِّم، والحِفاظِ على سَلامَتِها، وقُوَّتِها، وتَأكيدِ حُضورِها، ووَضْعِ المُصْطَلَحاتِ والمَراجِعِ اللُّغَوِيَّةِ المُلائِمَةِ لِلعَصْر، ونَشْرِ الكُتُبِ والدَّوريَّاتِ المُتَخَصِّصَة، وإقامَةِ الأَنْشِطَةِ الثَّقافِيَّة، مُؤتَمَراتٍ ونَدْواتٍ ومُحاضَراتٍ ووُرَشَ عَمَل، في خِدْمَةِ لُغَتِنا العَريقَة؛ وتَفْعيلِ كُلِّ هذِهِ الأَنْشِطَةِ في الفَضاءِ الإِلِكْتْرونيِّ الكَوْنِيّ، لِيَزْدادَ المُحْتوى الرَّقْمِيُّ العَرَبِيُّ نُمُوًّا ويَعْلُوَ شَأْنُه، فهو لا يَكادُ يَتَجاوَزُ نِسْبَةَ 1% مِن المُحْتَوى الرَّقْميِّ العالَمِيّ. خُصوصًا أنَّ لُغَتَنا الجَميلَةَ أَمْسَت تُعاني مِن مَظاهِرِ التَّشْويهِ والإقْصاءِ في مُجْتَمَعاتِنا، وتُواجِهُها العَوائِقُ والتَّحَدِّياتُ في شَتّى المَيادين.

اهتمامنا بلغتنا يعني أن نُعزّز مكانتها وانفتاح ثقافتها على الثقافة العالمية الرقمية

أَلَيْسَ مِن حَقِّ لُغَتِنا عَلَيْنا صَوْنُها، وحِمايَتُها، وتَوظيفُها بِقُوَّة، بَلْ وفَرْضُها رَسْمِيًّا بِالطُّرُقِ المُثْلى في مُخْتَلَفِ مَناحي الحَياة، حِفاظًا على وُجودِنا وخُصوصِيَّتِنا وأَمْنِنا القَومِيّ؟، خاصَّةً في المُؤَسَّساتِ التَّعْليمِيَّة، والتَّرْبَوِيَّة، والإِدارِيَّة، وغَيْرِها... وتَفعيلُ التَّعْريب، وتَعْزيزُ التَّرْجَمَةِ مِن العَرَبِيَّةِ وإِلَيْها؛ وإِلْزامُ المُؤَسَّساتِ المُخْتَلِفَة، والمَحالِّ والأسْواقِ التِّجارِيَّةِ بِاستِعْمالِها بَدَلًا مِن اللُّغاتِ الأَجْنَبِيَّة، أو اللَّهْجاتِ المَحَلِّيَّة.

إنَّ اهْتِمامَنا بِلُغَتِنا يَعْني أنْ نَحْفَظَ تُراثَها أَوَّلًا، ونُعزِّزَ مَكانَتَها وانْفِتاحَ ثَقافَتِها على الثَّقافَةِ العالَمِيَّةِ الرَّقْمِيَّة، مِن خِلالِ رَقْمَنَةِ التُّراثِ العَرَبيِّ والإِسْلاميِّ وتَشْجيعِ الإنْتِاجِ العِلْميِّ والأَدَبيِّ بِلُغَتِنا العَرَبِيَّة بِشَكْلٍ خاصّ، وأن نَجْعَلَها عالَمِيَّةً مَكْنوزَةً بِفَنِّها وإبْداعِها وابْتِكاراتِها المُتَجَدِّدَة؛ لِتُواصِلَ رِسالَتَها الإنْسانِيَّةَ النَّبيلَة. وإنَّها لا شَكَّ لَقادِرَةٌ على كُلِّ هذا وذاكَ مِن العَطاءِ الإنْسانيِّ الرَّاقي، بِجُهودِ أَهْلِها وعِنايَتِهِم بِها، وإطلاقِ طاقاتِها وإمْكانياتِها الهائِلَة.

كَذَلِكَ يَعْني الأَمْرُ تَطويرَها والبَحْثَ فيها، وتَطْويرَ طرائقِ تَعْليمِها واسْتِعْمالِها الأَمْثَل، وتَبْسيطَ قَواعِدِها النَّحَوِيَّةِ والصَّرْفِيَّة… وتَوْجيهَ كِتابَةِ البُحوثِ العِلْمِيَّةِ بِها، ومُتابَعَةَ مَدى تَفاعُلِها معَ لُغاتٍ أُخْرى في خِضَمِّ تَطَوُّراتِ العَصْر. بِالإضافَةِ إلى تَشْجيعِ التَّأْليفِ التَّمْثيليِّ المَرْئيِّ والمَسْرحيِّ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُبَسَّطَة، والتَّقْليلِ مِن العامِّيَّةِ في وَسائِلِ الإعْلامِ والثَّقافَةِ والصَّحافَةِ الوَرَقيَّةِ والإلِكْتْرونِيَّةِ…

إنَّ اللُّغَةَ العَرَبيَّةَ هُويَّتُنا، وخُصوصيَّتُنا، ومَلاذُنا الآمِنُ لِوُجودِنا الحَقيقِيّ، وامْتِيازِنا بَيْنَ الأُمَمِ التي تَتَحدّانا بِلُغاتِها التي تَحْتَوي العُلومَ والتِّقْنِيّاتِ المُتَطَوِّرَة، مِثْلَ أَدَواتِ الذَّكاءِ الاصْطِناعِيّ، وقد باتَ كَغَيْرِهِ مِن مَظاهِرِ التِّكْنولوجْيا الغَرْبِيَّةِ يُعَزِّزُ تَبَعِيَّتَنا لِلغَرْب، لُغَةً وفِكْرًا وإنْتاجًا واسْتِهْلاكًا… فَماذا نَحْنُ صانِعون؟.

حين يبتعد الإنسان عن لغته تبدأ ملامح هويته الفردية والاجتماعية في التفسّخ والانحلال

لا غَرْوَ أن يَعْلُُوَ صَوْتُ الغَيورينَ على عَرَبِيَّتِنا، ويُعْلِنوا غُرْبَتَها بَيْنَ أَهلِها! وكأنَّها أُبْعِدَتْ عن وَطَنِها، في حالَةٍ قاسِيَةٍ مِن التَّغَرُّب، نَشْعُرُ بِها ونُكابِدُ وَيْلاتِها… وإذا كانَتِ الغُرْبَةُ بِطَبيعَتِها تُولِّدُ الإحْساسَ العَميقَ بِالوِحْدَةِ والفُقْدان، فَإنَّنا والحالَةُ هَذِه، عَرَبًا ومُسْلِمينَ في طَريقِنا إلى فَقْدِ ما يُمَثِّلُ هُوِيَّتَنا، وخُصوصِيَّتَنا، ويُجَسِّدُ وُجودَنا الحَقيقِيَّ في هذا العالَم، إنْ لم نَتَدارَكِ الأَمْرَ ونَحمي أَنفُسَنا ولُغَتَنا مِمَّا لا يُحْمَدُ عُقْباه. ذلكَ أنَّ ما يَقَعُ مِن مُمارَساتٍ سَلْبِيَّةٍ في مُجْتَمَعاتِنا العَرَبِيَّةِ تُجاهَ لُغَتِنا العَرَبِيَّة، مِمَّا يَتَبَدّى مِن مَظاهِرِ الإهْمالِ واللّامُبالاةِ بِما تَتَعَرَّضُ لهُ لُغَتُنا مِن أذًى وتَحْجيم؛ أَصْبَحَ يَعْكِسُ حالَةً مُزْرِيَةً مِن الاغْتِرابِ والاسْتِلابِ العامّ، يَعيشُها الأَفْرادُ في واقِعِهم، ومِنْهُم مَنْ لا يَشْعُرُ بِها إِطْلاقا، لأنَّها حالَةُ انْعِزالٍ نَفْسيٍّ واجْتِماعيٍّ عَنْ روحِ الهُوِيَّةِ والثَّقافَةِ الأَصيلَة، المُتَجَسِّدَةِ في اللُّغَةِ الأُمّ…

لا يُمْكِنُ لِلإنْسانِ أنْ يَعيشَ حَياةً كَريمَةً في مُجْتَمَعٍ لا يَشْعُرُ فيهِ بانْتِمائِهِ الطَّبيعيِّ إلى لُغَتِهِ وثَقافَةِ بيئَتِهِ التي وُلِدَ وتَكَوَّنَ فيها شَكْلًا ومَضْمونا، ويَعْتَزُّ بِذَلِك. ولِهَذا، حينَ يَبْتَعِدُ الإنْسانُ عن لُغَتِهِ شَيْئًا فَشَيْئا، فهو يَبْتَعِدُ عن أَداةِ تَفْكيرِهِ وتَعْبيرِهِ وتَواصُلِهِ معَ الآخَرين، وتَبْدَأُ مَلامِحُ هُوِيَّتِهِ الفَرْدِيَّةِ والاجْتِماعِيَّةِ في التَّفَسُّخِ والانْحِلال، فيَفْقِدُ مَعْناهُ الحَقيقِيّ، وتَتماهى ذاتُهُ في ذَواتٍ أُخْرى غَريبَةٍ عَنْه، فَيَضيع، ويَضْمَحِلّ، ويَتَلاشى. فَكَيْـفَ بِنا ونَحْنُ نُقَلِّلُ مِن شَأْنِ لُغَتِنا في العِلْمِ والتَّعْليمِ والإعْلامِ ومَظاهِرِ الحَياةِ العامَّة، في زَمَنٍ تُواجِهُ فيهِ مَخاطِرَ التِّكْنولوجْيا الغَرْبِيَّةِ المُوَجَّهَة، والمُؤَدْلَجَة، خُصوصًا الذَّكاءَ الاصْطِناعيَّ بِما فيهِ مِن مَساوِئ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عن فَوائِدِهِ الجَمَّة… لِذا وَجَبَ التَّنْبيه، ودَقُّ ناقوسِ الخَطَر.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن