الحَقيقَةُ أَنَّ هَذِهِ القَوْمِيَّةَ إِنَّما هِيَ بِمَثابَةِ عَوْدَةٍ إلى الجُذورِ الأولى لِلقَوْمِيَّةِ العَرَبِيَّةِ الَّتي نَشَأَتْ كَحَرَكَةٍ إِصْلاحِيَّةٍ ليبيرالِيَّةٍ تَوْحيدِيَّةٍ في أَوْساطِ المُثَقَّفين والتُّجّارِ والطُّلّابِ العَرَبِ في مُواجَهَةِ مَظالِمِ الحُكْمِ العُثْمانِيّ.
ولَكِنَّ التَّلازُمَ الحالِيَّ بَيْنَ القَوْمِيَّةِ والاشْتِراكِيَّةِ نَشَأَ في الخَمْسينِيّاتِ نَتيجَةَ الانْدِماجِ مَعَ الفِكْرِ الاشْتِراكيِّ الثَّوْريِّ الرّاديكالِيّ، وهوَ تَوَجُّهٌ بَدَأَهُ الزَّعيمُ السّورِيُّ الشَّهيرُ أَكْرَم الحوراني ونَقَلَهُ إلى حِزْبِ البَعْثِ الذي كانَ في نَشْأَتِهِ حِزْبًا قَوْمِيًّا ولَيْسَ يَسارِيّا، ومِنْ سورْيا انْتَقَلَ إلى بَقِيَّةِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ وعلى رَأْسِها مِصْرُ النّاصِرِيَّة. والمُفارَقَةُ أَنَّ هَذا التَّلازُمَ بَيْنَ القَوْمِيَّةِ والاشْتِراكِيَّةِ هُوَ أَمْرٌ نادِر حَيْثُ ارْتَبَطَتِ القَوْمِيَّةُ في الغَرْبِ والكَثيرِ مِن دُوَلِ العالَمِ بِاليَمينِ ويَمينِ الوَسَط.
يجب أن تكون القومية حليفة للدول القطرية العربية لمواجهة المشروعين الإيراني والتركي والمشروع الإسرائيلي
ولَكِنَّ الفَشَلَ العَرَبِيَّ في النَّكْبَةِ والمَظالِمِ الاجْتِماعِيَّةِ وتَعاوُنَ بَعْضِ الإِقْطاعِيّينَ والرَّأْسْمالِيّينَ مَعَ الاسْتِعْمارِ أَو ضَعْفِهِم في مُواجَهَتِهِ ورَفْضِهِم لِلإِصْلاحاتِ الاجْتِماعِيَّةِ الضَّرورِيَّةِ دَفَعَ القَومِيّينَ العَرَبَ إلى اليَسارِ (على الرَّغْمِ مِن أَنَّ كَثيرًا مِنَ الشُّيوعِيّينَ العَرَبِ كانوا مُتَعاطِفينَ مَعَ الحَركَةِ الصُّهْيونِيَّةِ في بَدايَتِها)، وهوَ الأَمْرُ الَّذي أَكْسَبَ القَوْمِيَّةَ العَرَبِيَّةَ زَخمًا كَبيرًا في السِّتينِيّات، ولَكِنْ صاحَبَهُ انْدِفاعٌ سِياسِيٌّ أَدّى إلى مَسارٍ اقْتِصادِيٍّ غَيْرِ رَشيدٍ ومُغامَراتٍ عَسْكَرِيَّةٍ غَيْرِ مَحْسوبَةٍ قادَتْ إلى نَتائِجَ أَسْوَأَ مِنَ النَّكْبَة.
كما أَدّى ذَلِكَ إلى شَرْخٍ في المُجْتَمَعاتِ العَرَبِيَّةِ بَيْنَ الاشْتِراكِيّينَ القَوْمِيّينَ وبَيْنَ القُوى المُحافِظَةِ واللّيبيرالِيَّةِ وطَبَقَةِ التُّجّارِ والرَّأْسْمالِيّينَ الَّتي تَتَنافَرُ بِطَبيعَتِها مَعَ الاشْتِراكِيَّة.
وَحَدَثَ شَرْخٌ أَكْبَرُ بَيْنَ الدُّوَلِ المَلَكِيَّةِ وأَكْثَرُها خَليجِيَّة، وهيَ الأَقْرَبُ لِلّيبيرالِيَّةِ الاقْتِصادِيَّةِ وتَمْتَلِكُ أَغْلَبَ رَأْسِ المالِ في المِنْطَقَة، وبَيْنَ الدُّوَلِ ذاتِ النَّهْجِ الاشْتِراكيّ.
العروبة لم تقضِ على الهويات الوطنية بل حرّرتها من الاستعمارين البيزنطي والفارسي لتوحّد ما كان واحدًا في الأصل
إِنَّ هَذِهِ العُروبَةَ يَجِبُ أَن لا تَكونَ أَداةً بِيَدِ الرَّأْسْمالِيَّةِ العَرَبِيَّة، ولَكِنْ يَجِبُ أَن تَتبَنّاها الأَخيرَةُ فِكْرِيًّا لأَسْبابٍ أَخْلاقِيَّةٍ ومَصْلَحِيَّة، كما يَجِبُ أَن تَكونَ هذِهِ القَوْمِيَّةُ حَليفَةً لِلدُّوَلِ القُطْرِيَّةِ العَرَبِيَّةِ لِمُواجَهَةِ المَشْروعَيْنِ الإِقْليمِيَّيْنِ الإِيرانيِّ والتُّرْكيِّ اللَّذَيْنِ يَتَوَسَّعانِ في غِيابِ مَشْروعٍ عَرَبِيّ، والأَخْطَرُ في مُواجَهَةِ المَشْروعِ الإِسْرائيليِّ في نُسْخَتِهِ التَّدميرِيَّةِ الجَديدَةِ الَّذي يُريدُ تَقْسيمَ المِنْطَقَةِ إلى "كانْتوناتٍ طائِفِيَّةٍ" ولا يُخفي نِيَّتَهُ في وَأْدِ أَيِّ تَطَوُّرٍ تُنْجِزُهُ أَيُّ دَوْلَةٍ عَرَبِيَّةٍ حَتّى ولَوْ كانَتْ حَليفَةً لِواشِنْطُن أَو لَيْسَ لَدَيْها مُشْكِلَةٌ بِالتَّطْبيع.
كما يَجِبُ أَن تَكونَ هذِهِ القَوْمِيَّةُ مُتَصالِحَةً مَعَ الشُّعورِ الوَطنيِّ في كُلِّ دَوْلَةٍ عَرَبِيَّة، ولَيْسَت بَديلًا لَهُ، بَل هِيَ مُحَصِّلَةٌ لِمَجْموعِ هذِهِ الوَطَنِيّات، وتَعْتَبِرُ الدَّوْلَةَ العَرَبِيَّةَ الوَطَنِيَّةَ مَكْسَبًا قَوْمِيّا، وتَرى بِالعُروبَةِ فِكْرَةً جامِعَةً لِلهُوِيّاتِ الوَطَنِيَّةِ التّاريخِيَّةِ القَديمَةِ في الدُّوَلِ العَرَبِيَّة؛ لأَنَّ كُلَّ شُعوبِ المِنْطَقَةِ القَديمَةِ مِن فَراعِنَةٍ وآشورِيّينَ وفينيقِيّينَ وأَمازيغَ وعَرَبٍ ما قَبْلَ الإِسْلامِ وغَيْرِهِم هُم شَعْبٌ واحِدٌ في الأَصْلِ وَفْقًا لِما يُؤَكِّدُهُ العِلْمُ الحَديث، والعُروبَةُ لَم تَقْضِ على هذِهِ الهُوِيّات، بَل حَرَّرَتْها مِنَ الاستِعمارَيْنِ البيزَنْطيِّ والفارِسيِّ لِتُوَحِّدَ ما كانَ واحِدًا في الأَصْل.
فكرة أميركا الواحدة إحدى دوافعها التاريخية الرأْسمالية الأميركية الساعية إلى السوق الكبيرة
وما الشُّعوبُ العَرَبِيَّةُ الحَالِيَّةُ إِلّا نَتيجَةَ امْتِزاجٍ طَوْعِيٍّ في أَغْلَبِهِ بَيْنَ العَرَبِ الفاتِحين وأَبْناءِ عُمومَتِهِم مِن أَقْباطٍ وآرامِيّينَ وأَمازيغ، والدَّليلُ على ذَلِكَ أَنَّ العِراقَ خَضَعَ لِلحُكْمِ الفارِسيِّ لِنَحْوِ أَلْفِ عامٍ ولَم يُصْبِحْ فارِسِيّا، وأَصْبَحَ عَرَبِيًّا خِلالَ بِضْعَةِ عُقود. وبِلادُ الشّامِ خَضَعَت لِإِمْبَراطورِيّاتٍ لُغَتُها كانَت إِغْريقِيَّةً لِـ960 عامًا ولَم تَتَحدَّثِ اليُونانِيَّة، بَيْنَما غَيَّرَت لُغاتِها مَرّاتٍ عِدَّةً، كُلُّها كانَتْ سامِيَّة وآخِرُها الآرامِيَّةُ ثُمَّ العَرَبِيَّة، وذلك لأَنَّ كُلُّها لُغاتٌ مُتَشابِهَةٌ وكَأَنَّهُ انْتِقالٌ مِن لَهْجَةٍ سامِيَّةٍ لأُخرى. والأَمْرُ ذاتُهُ مَعَ شَمالِ أَفْريقْيا ومِصْر.
إِنَّ تَبَنّي الرَّأْسْمالِيَّةِ العَرَبِيَّةِ لِهذِهِ القَوْمِيَّةِ أَمرٌ شَديدُ الأَهمِّيَّة، لَيْسَ فَقَطْ لأَنَّهُ يَفْتَحُ لَها سُوقًا واسِعَةً لِلإِنْتاجِ والاسْتِثْمارِ في ظِلِّ صِغَرِ الأَسْواقِ الوَطَنِيَّة، ولَكِنْ أَيْضًا لأَنَّ أَيَّ طَبَقَةٍ تَحْتاجُ إلى مُحتوًى إِيدْيولوجِيٍّ وإِلّا تَحَوَّلَت إلى الْتِقاءِ مَصالِحَ بلا مَبادِئ. كما أَنَّ الإِطارَ العَرَبِيَّ الواسِعَ ضَرورَةٌ اسْتْراتيجِيَّةٌ واقْتِصادِيَّة؛ فَفِكْرَةُ أَميرْكَا الواحِدَةِ العابِرَةِ لانْقِسامَاتِ الوِلاياتِ والجَنوبِ والشَّمال، إِحْدَى دَوافِعِها التَّاريخِيَّةِ الرَّأْسْمالِيَّةُ الأَميرْكِيَّةُ السّاعِيَةُ إلى السّوقِ الكَبيرَة، واليَوْمَ الشَّرِكاتُ الكُبْرى هِيَ أَكْبَرُ داعِمٍ لِلاتِّحادِ الأوروبِّي.
تجربة الاتحاد الأوروبي تُثبت أنّ البدايات التي تتقدّم اقتصاديًا مع مراعاة مصالح الجميع تؤدي إلى نتائج تفوق التوقعات
وتَبَنِّي الأَرِسْتُقْراطيِّ اليَمينيِّ المُحافِظِ بِسْمارْك لِلوَحْدَةِ الأَلْمانِيَّةِ هُوَ الَّذي حَوَّلَها إلى واقِعٍ بَعْدَما فَشِلَ في تَحْقيقِها الثَّوْرِيّونَ والرّومانْسِيّون، كما جَعَلَ بِسْمارْك مِنَ المُؤسَّساتِ والطَّبَقاتِ الأَلْمانِيَّةِ الرَّأْسْمالِيَّةِ والأَرِسْتُقْراطِيَّةِ التَّقْليدِيَّةِ قُوَّةً دافِعَةً إلى الوَحْدَةِ وأَساسَ الدَّوْلَةِ الجَديدَةِ بَعْدَما كانَت تُعارِضُها، بَل حافَظَ على أَغْلبِ كِياناتِ الدُّوَيْلاتِ الأَلْمانِيَّةِ القَديمَة.
إِنَّ الامْتِزاجَ بَيْنَ واقِعِيَّةِ الرَّأْسْمالِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ العَرَبِيَّةِ وإِنْجازاتِ بَعْضِ حُكوماتِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ ورومانْسِيَّةِ المُثَقَّفين والشَّبابِ العُروبِيّ، هُوَ السَّبيلُ الوَحيدُ لِخَلْقِ طَريقٍ واقِعِيٍّ لِتَنْفيذِ الأَحْلامِ العَرَبِيَّةِ والقُطْرِيَّةِ مَعا.
إِنَّهُ طَريقٌ يَبْدَأُ بِحُلْمِ سوقٍ عَرَبِيَّةٍ مُوَحَّدَةٍ وسَيّارَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ أَوْ طائِرَةٍ عَرَبِيَّةٍ الصُّنْع، ولَيْسَ بِالضَّرورَةِ الدَّوْلَةَ المَرْكَزِيَّةَ المُوَحَّدَة.
وتُثْبِتُ تَجْرِبَةُ الاتِّحادِ الأوروبّيِّ أَنَّ البِداياتِ المُتَواضِعَةَ، ولَكِن الواقِعِيَّةَ والتي تَتَقَدَّمُ اقْتِصادِيًّا بِاطِّرادٍ مَعَ مُراعاةِ مَصالِحِ الجَميع، تُؤَدّي إلى نَتائِجَ تُفوقُ التَّوَقُّعات. فَلَمْ يَكُنْ قادَةُ أوروبّا الأَوائِلُ الذينَ أَسَّسوا الْمَجْموعَةَ الاقْتِصادِيَّةَ الأوروبِّيَّةَ عامَ 1957 والخارِجَةُ بُلْدانُهُم لتَوِّها مِنَ الحَرْبِ العالَمِيَّةِ الثّانِيَة، يَعْلَمونَ أَنَّهُم يَضَعونَ لَبِناتِ الاتِّحادِ الأوروبّيِّ بِشَكْلِهِ الحالِيّ، بَيْنَما كانَ قادَةُ العَرَبِ في الحِقْبَةِ ذاتِها يَرَوْنَ عن حَقٍّ أَنَّ بِلادَهُم جَديرَةٌ بِالوَحْدَة، وَلَكِنَّ المَساراتِ الرّاديكالِيَّةَ وَغَيْرَ الواقِعِيَّةِ أَفْضَتْ إِلى الواقِعِ الحالِيّ.
(خاص "عروبة 22")

