البعض شبّهها بلحظة اتفاق "سايكس - بيكو" المعروف بين بريطانيا العظمى وفرنسا، في زمن سقوط الدولة العثمانية، وهي الخطوة التي مهّدت لتقسيم جغرافيّة الشرق، على أُسُسٍ لم تكن موضوعيّةً في الكثير من الأحيان، تداخل فيها القبلي والعشائري مع المذهبي والطائفي، والعقائدي مع الإيديولوجي، والعرقي مع التراثي الديني... وما زالت تداعياتها قائمةً حتى بعد مرور أكثر من مائة عام على التقسيم، الذي أصبح يضمّ 20 دولةً من المحيط إلى المحيط، بقومياتٍ وهوياتٍ تتجاذبها مصالح إقليمية متناقضة، وتبعيّات خارجية مُتعارضة، بعد أن سقطت مقولة "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"!.
قوى خارجية تسعى إلى تفتيت المنطقة إلى دويلات على طريقة "إمارات الطوائف"
في مأساة معارك السويداء المؤسفة، وقبلها أحداث الساحل في سوريا الجديدة، والاعتداء على سكانٍ مدنيّين عُزّل، لم يعُد الوطن هو الحاضن المفترض لمواطنيه، وربّما ناب الانتماء إلى الطائفة عن الانتماء إلى الوطن. المتورّطون في تلك المذابح المُدانة، ربّما لم يسمعوا (بسبب ميولهم الثقافية) أوبريت "بساط الريح"، التي كانت رمزًا للعروبة في خمسينيّات القرن الماضي، من بغداد إلى مراكش، مرورًا بسوريا ولبنان، وتونس الخضراء، وصولًا وعودةً إلى مصر بلاد النيل. هذه "النوستالجيا الفنيّة" التي تغنّت بها السويداء وأحفاد الأطرش، أصبحت من الماضي، تتوارى مع غياب الأجيال التي عاشت حلم الوحدة العربية، على الرَّغم من كل أخطاء جمال عبد الناصر وهزيمة 1967.
المبعوث الأميركي توم باراك سيكون عليه مهمّة إطفاء حرائق مشتعلة في الشرق الأوسط القديم. والرهان الأكبر هو أن تحافظ الدول على كِياناتها من دون حروبٍ أهليةٍ جديدة، أو انفصال قسري، تزكّيه وتغذّيه قوى خارجية، تسعى إلى تفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ على طريقة "إمارات الطوائف"، التي كانت بداية نهاية الوجود الإسلامي العربي في الأندلس عام 1492.
دولٌ في مهبّ الريح... ولكن؟
التحدّي الجديد لا يشمل نظام الحكم أو حدود البلد، بل يمتدّ إلى مكوّنات الدولة نفسها، بكلّ مقوّماتها وهويتها وكينونتها، ولا يتعلّق الأمر بالقدرة على الصمود في وجه العاصفة فقط، بل في حظوظ الخروج بأقلّ الأضرار من ترسانة الخسائر، التي قد تمتدّ إلى وجوديّة الدولة، ومخاطِر تقسيمها إلى دويلات صغيرة، وكيانات متنافرة، متناحرة حول مرجعيّات عرقية، ودينية، وسياسية، ومذهبية، أو حتّى مصالح اقتصادية.
كل الدول الفاشلة تنتمي إلى فئة دول "الممانعة" وليس صدفةً أنّها الأكثر تهديدًا بالتفتّت والتشرذم الداخلي
لقد أنهكت الحروب دول "الممانعة"، تحت ظلم حاكمٍ مُستبد، قتل شعبه قبل خصومه، ولم يُحرّر لا ليمونة ولا زيتونة، كما قال الشاعر نزار قباني، في رثاء زوجته بلقيس في سفارة العراق ببيروت عام 1981. ليس صدفةً أنّ كل الدول الفاشلة تنتمي إلى فئة دول "الممانعة" (السابقة)، وليس صدفةً أنّها الأكثر تهديدًا بالتفتّت والتشرذم الداخلي، وحتى انهيار الدولة - الوطن.
سوريا الحلقة الأضعف في الشرق الأوسط
سوريا التي كانت تملك كلّ مفاتيح الحرب والسلام في مجموع الشرق الأوسط، تحوّلت إلى بلدٍ منكوب، يعيش على مساعدة الآخرين، ورضا أميركا، وعدم ممانعة إسرائيل، وتفاهم تركيا، وموافقة الأقليّات، وتمويلات الخليج والاتحاد الأوروبي.
يقول تقرير البنك الدولي: "إن نظام بشار الأسد وضع أكثر من نصف السكّان على طريق الهجرة، وتسبّب في مآسٍ هي الأكبر في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. وكانت الحرب الأهلية السورية أكثر الصراعات دمويةً في هذا القرن. ما بين عامي 2011 و2023، سجّل برنامج بيانات الصراعات الإقليمية أكثر من 409 آلاف حالة وفاة مرتبطة بالمعارك في سوريا".
وانكمش الاقتصاد السوري بنسبة 53% ما بين عامي 2010 و2022، ممّا دفع البنك الدولي لتصنيف سوريا دولةً مُنخفضة الدخل، بعد أن تراجع نصيب الفرد إلى ما دون 869 دولارًا سنويًّا، وهو ثاني أفقر دخل بعد اليمن بـ433 دولارًا في المنطقة العربية. وعشية سقوط النظام البائد نهاية العام الماضي كان 5.5 ملايين من اللاجئين السوريين يعيشون في تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر، و1.2 مليون في أوروبا.
من ليبيا إلى اليمن
منذ سقوط ومقتل معمّر القذّافي عام 2011، تعيش ليبيا واقع التقسيم بين حكومتَيْن وجيشَيٍن، لكلّ منهما عاصمة (طرابلس وبنغازي) ومؤسّسات منفصلة، وقائد وزعيم. ما يجمعهما هو البحر الأبيض المتوسط المُطلّ على العالم الخارجي، والبنك المركزي الذي يُوزّع ثروات إيرادات النفط بين الفرقاء، بلا حسيب ولا رقيب. وعلى الرَّغم من النفط وعدد السكان الذي لا يتجاوز 7 ملايين نسمة، تُعتبر ليبيا دولةً فاشلةً اقتصاديًّا بدخلٍ فرديّ يُقدّر بـ6515 دولارًا سنويًّا، في وقتٍ يراوح الدخل الفردي في دول الخليج النفطية ما بين 71 ألف دولار في قطر، و50 ألف دولار في الإمارات، و20 ألفًا في عُمان. أمّا اليمن فهي في مؤخّرة الترتيب العربي، في التنمية البشرية والمُستدامة، والأمل في الحياة هو الأضعف في مجموع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنحو 63.7 سنة، لعدد سكانٍ يُقدّر بـ41 مليون نسمة، وبدخلٍ قوميّ لا يتجاوز 18 مليار دولار.
إسرائيل تعمل على تفكيك أُسُس الدول وتحويلها إلى كيانات صغيرة لإرغامها على القبول بشرق أوسط جديد
اليمنيون أصبحوا تحت رحمة الحوثيّين الذين، باسم الدفاع عن غزّة، يتسبّبون في خراب بلدهم. وهم على قناعةٍ بأنّ مصالحهم مع إيران، ومع الطائفة الزيدية والإسماعيلية الشيعيّة، ربّما أكبر من انتمائهم إلى وطنٍ أغلبه من السُنّة المسلمين. هذا السلوك المُتهوّر يخدم مصالح إسرائيل، التي تعمل على تفكيك أُسُس الدول، وتحويلها إلى كياناتٍ صغيرة، لإحكام السيطرة عليها وإرغامها على القبول بشرق أوسطٍ جديد.
(خاص "عروبة 22")