الثروات العربيّة المعدنيّة والاستخراجيّة: التهديدات وسُبل الحماية والتعظيم!

تمتلك المنطقة العربية ثرواتٍ طبيعيةً استثنائيةً تتنوّع بين مصادر الطاقة الأحفورية التقليدية (مثل النفط والغاز) والثروات المعدنيّة (كالفوسفات والذهب والنحاس)، بالإضافة إلى المعادن الاستراتيجية النادرة. وقد شكّلت هذه الموارد عصب الاقتصادات العربية لسنواتٍ طويلةٍ، إلّا أنّها تواجه اليوم تحدّياتٍ مصيريةً تهدّد استدامتها، أبرزها: 1 - التقلّبات الجيوسياسية: التي تُعيق الاستغلال الأمثل لهذه الثروات. 2 - المتطلّبات البيئية العالمية: مع تزايد الضغوط للتحوّل نحو الاقتصاد الأخضر. 3 - غياب الاستراتيجيات التنمويّة الواضحة: ممّا يؤدّي إلى استنزاف الموارد من دون تحقيق القيمة المُضافة الحقيقيّة.

الثروات العربيّة المعدنيّة والاستخراجيّة: التهديدات وسُبل الحماية والتعظيم!

تُشير بيانات "أوبك" (OPEC - 2024) إلى أنّ الدول العربية الأعضاء في المنظمة تمتلك ما يزيد على 710 مليارات برميل من احتياطيّات النّفط المؤكّدة، أي نحو 57% من الاحتياطي العالمي. أمّا الغاز الطبيعي، فتحتلّ الدول العربية المرتبة الثانية عالميًا من حيث الاحتياطي، بنسبة تتجاوز 27% من الإجمالي العالمي، بحسب تقرير "بريتيش بتروليوم للطاقة" لعام 2024 (BP Statistical Review - 2024).

الاعتماد على شركات أجنبية تتحكّم بعقود الاستخراج يؤدّي إلى خسائر فادحة في القيمة المُضافة للثروات العربية

في قطاع الفوسفات، يملك المغرب وحده أكثر من 70% من الاحتياطي العالمي، ويُعدّ ثاني أكبر مصدر عالمي لهذه المادة الاستراتيجية، التي تُستخدم أساسًا في إنتاج الأسمدة الزراعية (USGS - 2024)، فضلًا عن دخولها في العديد من الصناعات الدوائيّة والمياه الغازيّة بعد تحويلها إلى "فوسفوريك أسيد". إلى جانب ذلك، تُقدّر احتياطيّات الذهب المؤكّدة في السودان بنحو 1.550 طنًّا، فيما تملك الجزائر وموريتانيا احتياطيّاتٍ كبيرةً من الحديد والنحاس لم تُستغلّ بعد بِالقدر الكافي.

تواجه الثروات العربيّة تهديداتٍ مُتعدّدةً، أبرزها الاعتماد على شركاتٍ أجنبيةٍ تتحكّم بعقود الاستخراج، في ظلّ ضعف التفاوض السيادي، ما يؤدّي إلى خسائر فادحةٍ في القيمة المُضافة. كما تُعَدُّ النزاعات المسلّحة تهديدًا مباشرًا للثروات، إذ تسبّبت الحرب في ليبيا، مثلًا، في خفض إنتاج النفط من أكثر من 1.6 مليون برميل يوميًّا عام 2010 إلى أقلّ من 800 ألف في بعض سنوات الصراع (EIA - 2023).

كما يُهدّد تغيّر المناخ مستقبل الاستثمارات في الطاقة الأحفورية، فتقارير "صندوق النقد الدولي" (IMF - 2023) تؤكّد أنّ السياسات البيئيّة في أوروبا وأميركا تتّجه لفرض قيودٍ على استيراد الوقود الأحفوري غير النظيف، ممّا قد يؤثّر على صادرات الدول العربية، إنْ لم تواكب التحوّل نحو مصادر الطاقة الخضراء.

عبر الشراكات الإقليمية تستفيد الدول من مزايا بعضها ما يُكرّس نموذجًا تكامُليًا عربيًا فاعلًا

لحماية هذه الثروات، تبرز الحاجة أولًا إلى إصلاحٍ شاملٍ للإطار التشريعي الحاكم لقطاعَي المعادن والطاقة، بما يشمل إعادة صياغة عقود الامتياز بشكلٍ يُرسّخ السيادة الوطنية على العمليات الجوهريّة، ويُلزم الشركات الأجنبية بنقل التكنولوجيا والمعرفة، وتوطين سلاسل الإنتاج والصناعات المرتبطة بالموارد. كما ينبغي أن تتّجه الدول العربية نحو إنشاء مؤسساتٍ رقابيّةٍ فاعلةٍ ومراكز بحثيّةٍ وطنيّةٍ مُتخصّصةٍ، تكون قادرةً على إجراء تقييماتٍ دقيقةٍ لحجم وجودة وجدوى استغلال الموارد، بما يقلّص الاعتماد على الدراسات والمسوح الجيولوجية الأجنبية، التي كثيرًا ما تُستخدم كأداةٍ للتقليل من قيمة الثروات العربية، بهدف فرض شروطٍ مُجحفةٍ في عقود الاستغلال والتسعير.

كما يمكن تأسيس صناديق سياديّةٍ مُتخصّصةٍ، تتولّى استثمار عائدات الموارد الطبيعيّة، مع توجيهها إلى مشروعاتٍ تنمويةٍ طويلة الأجل، على غرار "صندوق الأجيال" في الكويت و"صندوق الاستثمارات العامة" في السعودية، اللّذين تجاوزت أصولهما مجتمعةً 1.5 تريليون دولار (SWF Institute - 2024).

وإذا كان أبرز أوجه الخلل يكمُن في الاكتفاء بتصدير الخامات الأوليّة من دون تطوير سلاسل القيمة محليًّا، مع إعادة استيراد الخامات ذاتها بعد إضافة قيمةٍ تصنيعيةٍ في الخارج وبتكلفةٍ مضاعفةٍ، فإنّ تطوير الصناعات المعدنية والفلزية ذات القيمة المُضافة بات أمرًا غايةً في الأهميّة بالنسبة للدول العربية.

التحدّيات تفرض واقعًا جديدًا يقتضي تجاوز السياسات القُطرية والاتجاه نحو نماذج إدارة تعاونية للموارد

تعظيم العائد يتطلّب تطوير صناعاتٍ تحويليةٍ مثل تكرير النفط، إنتاج الأسمدة، وتصنيع البطاريات والمعادن النادرة المُستخدمة في تقنيات الطاقة المتجدّدة. هذا التوجّه يستدعي تشجيع الشراكات الإقليمية، بحيث تستفيد الدول من مزايا بعضها: الغاز المصري لتشغيل مصانع أردنية، أو الفوسفات المغربي لدعم صناعات كيماوية في الخليج، ما يُكرّس نموذجًا تكامُليًا عربيًا فاعلًا.

وإذ تواجه الموارد الطبيعيّة في الدول العربية تحدّياتٍ مشتركةً: ندرة المياه، هشاشة سلاسل الإمداد، الاعتماد المفرط على التصدير الخام، والتعرّض للضغوط السياسية والاقتصادية من القوى الكبرى... فإنّ تلك التحدّيات تفرض واقعًا جديدًا يقتضي تجاوز السياسات القُطرية، والاتجاه نحو نماذج إدارةٍ تعاونيةٍ للموارد الحرجة، بخاصة تلك المرتبطة بالأمن الغذائي، والطاقة، والمعادن النادرة.

يُمكن الاسترشاد بتجارب دوليةٍ ناجحةٍ، مثل التجمّعات الإقليمية في أميركا الجنوبية وأفريقيا التي أسّست شبكاتٍ لتبادل الخبرات والبيانات الجيولوجية، ومراكز مشتركة لتسعير الموارد والتفاوض مع الشركات العالمية.

في هذا السياق، يُمكن للدول العربيّة أن تُطوّرَ نموذجًا خاصًا بها يقوم على:

- إنشاء هيئة عربية مشتركة للموارد الاستراتيجية، تُعنى بتجميع البيانات، وتوحيد المواصفات، والتنسيق في المفاوضات مع الشركات متعدّدة الجنسيات.

- وضع آلية لتسعير الموارد عربيًا بناءً على تكلفة الإنتاج والقيمة السوقيّة الحقيقيّة، بما يقيّد التقلّبات المُفتعلة من قبل الأسواق أو وكالات التصنيف.

- تبنّي سياسات شراء جماعي للمدخلات الصناعية والتقنية المرتبطة بالصناعات الاستخراجية، ما يتيح خفض التكاليف وتعزيز القوة التفاوضيّة.

- بناء منظومة إنذار مبكر مشتركة لمخاطر الإمداد والاحتكار والتقلّبات البيئيّة، تُمكّن الدول من اتخاذ إجراءاتٍ وقائيّةٍ جماعيّةٍ في وقتٍ مبكّر.

تحوّل الاقتصاد إلى نموذج إنتاجيّ مُتكامل يُمثّل الطريق الحقيقي لتحويل الثروات الطبيعيّة إلى أداةٍ للنهضة والسيادة

إنّ تطوير نموذجٍ عربيّ موحدٍ لإدارة الموارد الحرجة لا يعني التنازل عن السيادة الوطنية، بل تعزيزها من خلال التعاون والتكامل. فكما أثبتت جائحة "كورونا"، والأزمات الجيوسياسية المتتالية، أنّ الانعزال مُكلف، فإنّ التنسيق الإقليمي في إدارة الموارد يمثل صمّام أمانٍ لاقتصاداتنا في عالمٍ متقلّب.

التحوّل من اقتصادٍ يعتمد على التصدير الخام إلى نموذجٍ إنتاجيّ مُتكاملٍ، يُمثّل الطريق الحقيقي لتحويل الثروات الطبيعيّة إلى أداةٍ للنهضة والسيادة. ولتحقيق ذلك، تحتاج الدول العربية إلى إرادةٍ سياسيةٍ، ورؤيةٍ استراتيجيةٍ، وتعاونٍ إقليميّ يتجاوز الخلافات الآنيّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن