ظلّت سوريا من أكثر الدول العربية عداءً لإسرائيل، ورفضت اتفاقيات كامب ديفيد (1978)، ومدريد (1991)، وأوسلو (1993). وقد خاضت معارك مباشرة مع إسرائيل في 1948 و1967 و1973. وبعد استقرار جبهة الجولان لعقود، تحوّلت المواجهة إلى صراعٍ غير مباشرٍ عبر دعم فصائل المقاومة، خصوصًا "حزب الله". لكن منذ 2011، ومع انشغال الدولة السورية بالحرب الأهلية، أصبح العدو الأول للنظام ليس إسرائيل، بل المعارضة الداخلية، ما غيّر أولويات النظام تغييرًا جوهريًا.
التحوّل في النظام السوري: من الأمن إلى البراغماتية السياسية
مثّل صعود أحمد الشرع إلى رئاسة سوريا قطيعةً نسبيةً مع نمط الحكم الذي كان قائمًا منذ عقود، والذي كان يتمحور حول الأمن والتوريث العائلي. على الرَّغم من أنّ الشرع ينتمي إلى النخبة البيروقراطية، إلّا أنّ تولّيه السلطة جاء في سياق تفاهمات داخلية وضغوط إقليمية ودولية بعد الانهيار الشامل لمؤسّسات الدولة.
الشرع ينظر إلى المفاوضات بوصفها قناة لإنقاذ الدولة من الانهيار الكامل وليست مجرّد تسوية مع عدو تاريخي
ومن هذا المنطلق، فإنّ دخوله في مفاوضاتٍ مع إسرائيل ليس مجرّد قرار ديبلوماسي، بل انعكاس لتحوّلٍ إيديولوجي وبراغماتي، يعكس رغبةً في إعادة التموضع إقليميًّا وكسر العزلة الدولية، مع الحفاظ على بقايا السيادة السورية على القرار الوطني.
دوافع إسرائيل للانخراط في مفاوضات مع النظام السوري الجديد
على الرَّغم من العداء التقليدي، هناك جملة من الأسباب التي تجعل إسرائيل منفتحةً على تفاهمات، منها ضبط النفوذ الإيراني في الجنوب السوري؛ فإسرائيل ترى في أيّ حوارٍ فرصةً لفصل دمشق عن طهران، أو على الأقل تحجيم التمدّد الإيراني قرب الجولان.
كما أنّ إسرائيل تُفضّل نظامًا مركزيًّا هشًّا في دمشق قادرًا على الالتزام بـ"عدم فتح الجبهة"، بدل سيناريوات الفوضى أو سيطرة المعارضة الإسلامية؛ هذا إلى جانب الانخراط مع النظام السوري الذي يُعزّز موقع إسرائيل في معادلات ما بعد الحرب السورية، خصوصًا في ظلّ تقاربها مع روسيا.
السيناريوات المستقبلية
إنّ مستقبل المفاوضات بين النظام السوري الجديد وإسرائيل لا ينفصل عن التحوّلات العميقة التي تشهدها المنطقة، سواء على مستوى خرائط النفوذ أو طبيعة التحالفات. هذه المفاوضات تجري على أرضيةٍ غير مستقرّة، وسط انهيار توازنات سابقة وبروز فراغات سياسية تحاول قوى متعدّدة ملأها. فالدولة السورية ليست في وضعٍ يسمح لها بفرض شروط تفاوضية صلبة، لكنها في المقابل تسعى لاستثمار ما تبقّى من أوراقها في الداخل والخارج لصياغة موقعٍ جديدٍ لها، ولو كان هشًّا.
النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع ينظر إلى المفاوضات بوصفها قناة لإنقاذ الدولة من الانهيار الكامل، وليست مجرّد تسوية مع عدو تاريخي. إنّ الرهان الأكبر هنا هو على استخدام التفاوض كورقةٍ لإعادة تأهيل النظام دوليًا، وفكّ العزلة الغربيّة، وتأمين استثمارات عربية أو دولية لإعادة الإعمار، ممّا يمنحه شرعية سياسية بديلة عن الشرعية الثورية أو العسكرية. إلّا أنّ هذا المسار محفوف بالقيود: فهو مُقيّد بإرث الماضي، وبقوى الأمر الواقع داخل سوريا، وبممانعة الحلفاء غير الراغبين في رؤية دمشق تغادر معسكرهم.
وربّما السيناريو الأقرب إلى الواقعيّة في المدى القريب يتمثّل في التوصّل إلى "إطارٍ سياسيّ عامٍّ" أو إعلان مبادئ، من دون الغوص في التفاصيل الجوهريّة مثل مستقبل الجولان أو شكل العلاقات الأمنيّة.
المفاوضات ساحة للرهانات الكبرى أكثر ممّا هي لحظة تسوية نهائية
وربّما الأكثر انسجامًا مع المزاج السياسي، السوري والإسرائيلي، هو ما يمكن تسميته بـ"المفاوضات الممتدّة"؛ أي التفاوض من أجل التفاوض. في هذا السيناريو، تستمرّ اللقاءات والوساطات من دون نتائج حاسمة، وتُستخدم كأداةٍ تكتيكيةٍ لتحسين الوضع الإقليمي لكلّ طرف. النظام السوري قد يَستخدم المفاوضات كوسيلةٍ للضغط على الحلفاء أو لمساومة واشنطن، بينما ترى فيها إسرائيل وسيلةً لضبط الجبهة الشمالية من دون التزامات نهائية. هذا المسار قد يطول لسنواتٍ، لكنّه لا يحمل معه أي أفق لتسوية تاريخيّة.
ومن هنا تُعَدُّ المفاوضات الجارية بين سوريا وإسرائيل في ظلّ قيادة أحمد الشرع لحظة اختبار عميقة، لا لدمشق وحدها، بل لمجمل النظام الإقليمي العربي. فنجاحها أو فشلها سيؤثر على علاقة سوريا بحلفائها، وعلى توازن القوى بين المحاور الإقليمية، وعلى مستقبل القضية الفلسطينية ذاتها. ولعلّ المعضلة الأكبر تكمن في أنّ الطرف السوري يُفاوض تحت الضغط، والطرف الإسرائيلي يُناور من موقع التفوّق، بينما تغيب عن الطاولة قوى الداخل السوري، التي ستتأثر - بشكلٍ مباشرٍ - بأيّ اتفاق يُبرَم باسمها. وبين الواقع القائم والطموح المؤجّل، تبقى المفاوضات ساحةً للرهانات الكبرى، أكثر ممّا هي لحظة تسوية نهائية.
(خاص "عروبة 22")