قصة صعود ورحيل السادات ملهمة لكل ذي عين تبصر، لكنّ شهوة السلطة وبريقها أعميا هؤلاء الذين شهدوا فصول القصّة وتابعوا اغتيال بطلها على الهواء مباشرة في مشهد لا يزال محفورًا في ذاكرة العالم كلّه.
مشاهد نهاية السادات بدأت بعد شهور قليلة من انتصار أكتوبر/ تشرين الأول 1973، فقبيل لقائه الشهير بوزير الخارجية الأمريكي هنري كينسجر، بدأ الرئيس المنتصر في الترويج لما أُطلق عليه حينها "ورقة أكتوبر"، والتي تهدف إلى "إيجاد تصوّر شامل لبناء الدولة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا حتى عام 2000".
عرض السادات الورقة على استفتاء عام، وروّجت لها وسائل إعلامه باعتبارها بداية بناء "الدولة الحديثة"، وكعادة الاستفتاءات في بلاد العرب حازت الورقة على موافقة 99% من المصريين.
كانت الورقة بدايةً لتغيير بوصلة مصر وانحيازها لسياسات المعسكر الغربي، إذ لم تمض شهور قليلة حتى عادت العلاقات الدبلوماسية المقطوعة مع الولايات المتحدة التي زار رئيسها ريتشارد نيكسون مصر واستُقبل استقبال الفاتحين.
وبعد أقلّ من عامين وتحديدًا في مارس 1976 ألغى السادات معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتي، معلنًا أنّ "99٪ من أوراق اللعبة أصبحت في يد أمريكا".
لم يكن يعرف خططًا ولا دراسات جدوى ولا يقنع برأي مخالفيه ولا برقابة مؤسسات مستقلة
تدريجيًا أعلنت السلطة قرارات تتوافق مع توجّهات الحلفاء الجدد، إذ أُلغيت الرقابة على الصحافة، لكن السادات رهن هذا القرار بأن "يعمل الصحفيون على تعظيم ما هو إيجابي وعدم تسليط الضوء فقط على الجوانب السلبية"، ثم صدر قرار آخر يسمح بالتعددية السياسية فيما عُرف حينها بـ"المنابر" والتي تطوّرت فيما بعد وصارت أحزابًا سياسية.
تم تصدير تلك الخطوات إعلاميًا على أنها "انقلاب ديمقراطي" على "النظام الشمولي" الذي كان سائدًا قبل أن يتسلّم "كبير العائلة المصرية" منصبه خلفًا لسلفه جمال عبد الناصر.
بشّر السادات بـ"رخاء سيعمّ ربوع البلاد" كنتيجة لتوجّهاته، لكن الأمور لم تذهب إلى حيث أراد فمعدلات النمو تراجعت بشكل مضطرد والأزمة الاقتصادية حاصرت مصر وتصاعدت معدلات التضخم حتى بلغت 22.3%، فالرجل كغيره من حكّام بلادنا لم يكن يعرف خططًا ولا دراسات جدوى ولا يقنع برأي مخالفيه ولا برقابة مؤسسات مستقلة.
حاول السادات إقناع أصدقائه في الخليج بدعم الاقتصاد المصري، وحصل بالفعل على وعود بالمساعدة، إلا أنها لم تُنفّذ فساءت الأوضاع أكثر وأكثر، ما اضطرّه إلى رفع الدعم على عدد من السلع الأساسية، فانفجر الناس ونزلوا إلى الشوراع في 18-19 يناير/ كانون الثاني 1977 للاحتجاج ليس على رفع أسعار السلع فحسب بل على مجمل سياسات بطل الحرب الذي وصف الغضب الشعبي بـ"انتفاضة الحرامية".
هدأت عاصفة "انتفاضة الخبز"، واستدعى السادات عددًا من خبراء السياسة والأمن والاقتصاد لتحليل ما جرى، وكان الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، والذي ترك موقعه كرئيس تحرير لجريدة الأهرام عام 1974، ضمن من جلس معهم السادات لمعرفة رأيهم.
أشار هيكل على صديقه القديم بأنّ علاج أزمة الانفجار الذي جرى إثر سوء الأحوال الاقتصادية، يتوقف على تشخيص سلطته لما جرى "إذا كان يعتقد بأنّ ما حدث كان مؤامرة من الناصريين والشيوعيين، إذن فإن العلاج لا بد أن يكون بأجهزة السلطة، وأما إذا كان التشخيص الحقيقي لما حدث بأنه كان انفجارًا سياسيًا له دواعيه الاجتماعية والاقتصادية إذن فإنه يتحتم أن يكون العلاج سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا".
لم يستمع السادات إلى نصائح هيكل ولا غيره، واعتمد على العصا الأمنية في التعامل مع معارضيه، وظهر للديمقراطية التي بشّر بها "أنياب" نهشت كل من حاول هزّ موقع الرجل أو حتى ترشيد قراراته وتوجّهاته.
بعدها باغت الرئيس الشعب العربي كلّه بإعلانه المفاجئ عن استعداده لزيارة القدس والخطاب في "الكنيست ذاته"، وهو ما جعله هدفًا يسعى كلّ من حوله، سواء كان معارضيه أو حتى أطراف من داخل سلطته، لاصطياده.
الأخطاء ذاتها وقع فيها العديد من زعماء الاستبداد العربي
وهنا بدأ المشهد الأخير من الرواية والذي بدأ باعتقالات سبتمبر الشهيرة والتي فتح فيها السادات أبواب السجون لتستقبل أبرز رموز التيارات السياسية والفكرية والصحفية والدينية، إضافة إلى كل من فتح فمه بكلمة معارضة ضد "كامب ديفيد"، أو ضدّ التخبّط والفساد.
بعد أيام قليلة تحديدًا في 6 أكتوبر/ تشرين أول 1981، أسدل الستار ليعلن نهاية قصة "بطل الحرب والسلام" الذي تمّ اغتياله في ذكرى النصر.
قصة السادات لم تصل رسائلها إلى حكّام العديد من الدول العربية، فالأخطاء ذاتها، وإن كان هناك تغييرات طفيفة في التفاصيل، وقع فيها العديد من زعماء الاستبداد العربي.
لا يرحل الزعماء العرب إلا بالموت أو القتل أو الانقلابات والثورات، يُنزع الحكم منهم نزعًا وكأنه روح سكنت الجسد، لا يرغب أحد منهم في أن ينهي مدة حكمه ويقضي ما تبقى من عمره كمواطن أدى ما عليه، وسلّم الأمانة لمن خلفه.
(خاص "عروبة 22")