تقدير موقف

"العبودية المختارة"!من إتيان دو لا بويسي إلى استراتيجيات واشنطن وتل أبيب

منذ أن خطَّ المُفكّر الفرنسي إتيان دو لا بويسي (Étienne de La Boétie) في القرن السادس عشر رسالته الشهيرة عن "العبودية المختارة" (1576)، صار هذا المفهوم مفتاحًا لفهم العلاقة المُلتبسة بين الحاكم والمحكوم، بين السلطة التي تستمدّ قوتها من خضوع الشعوب، وبين الشعوب التي تُسلّم زمامها طوعًا، حتى وإن امتلكت القدرة على المقاومة والانفلات. فالعبودية، في جوهرها، ليست مجرّد قيدٍ يُفرض من الخارج، بل قبول داخلي ورضوخ يبرّره الخوف أو الوهم أو المصلحة.

إذا أسقطنا هذا المفهوم على الواقع السياسي الحديث، لوجدنا أنّ أكثر النّظم دهاءً في توظيف "العبودية المختارة" هي الولايات المتحدة وإسرائيل. فكلاهما اعتمد على صناعة الخضوع لا عبر السوط فقط، بل عبر آلياتٍ نفسيةٍ وإعلاميةٍ واقتصاديةٍ تجعل الشعوب ترضى بالهيمنة، بل وتدافع عنها كما لو كانت مصلحة ذاتية.

واشنطن وصناعة التبعيّة

لقد نجح رؤساء الولايات المتحدة، منذ الحرب الباردة حتى اليوم، في جعل فكرة "الديموقراطية الأميركية" أشبه بأسطورةٍ تُستهلك عالميا. فبدل أن يُنْظَرَ إلى الهيمنة الأميركية باعتبارها احتلالًا اقتصاديًا وسياسيًا، جرى تسويقها كـ"حمايةٍ" و"تحرير". وهنا تتجلّى العبودية المختارة في أوضح صورها؛ إذ تُساق شعوبٌ بأكملها لتبرير التدخّل العسكري الأميركي باسم الحرية، كما حدث في العراق وأفغانستان.

الاستبداد لا يعيش بالقوة وحدها بل يحتاج دومًا إلى "قبولٍ" من الضحية

والأدهى أنّ داخل الولايات المتحدة نفسها تُمارس السلطة هذا التوظيف، حيث يقبل المواطن الأميركي التضحية بموارده وضرائبه، بل وبأرواح أبنائه في حروبٍ "لا ناقة له فيها ولا جمل"، اقتناعًا بأنّه يدافع عن "الأمن القومي".

وهكذا تتحوّل الأكاذيب إلى عقائد، والخضوع الطوعي إلى واجبٍ وطنيّ.

تل أبيب وإدارة الوهم

أمّا إسرائيل، فقد أحكمت استخدام هذا المفهوم في إدارة العلاقة مع الفلسطينيين من جهةٍ، ومع المجتمع الدولي من جهةٍ أخرى. فهي تسعى دومًا إلى إعادة تشكيل وعي الفلسطيني عبر سياسات الحصار والتطويع الاقتصادي والإعلامي، بحيث يُدفع بعضهم إلى الاقتناع بأنّ بقاءهم تحت سلطة الاحتلال، أو التعايش معه، أقلّ كلفة من المقاومة.

وعلى مستوى العالم، لعبت إسرائيل لعبة "العبودية المختارة" باحترافٍ؛ إذ أقنعت الدول الغربية، بل والشعوب الغربية نفسها، بأنّ دعمها المُطلق لها واجب أخلاقي وتاريخي نتيجة "الهولوكوست".

وهكذا يتحوّل الغرب إلى تابعٍ طوعيّ، يدافع عن إسرائيل حتى عندما ترتكب أفظع الانتهاكات بحقّ الإنسانية.

"ميكانيزمات" العبودية المختارة

لقد اعتمدت كلٌّ من الولايات المتحدة وإسرائيل على أدواتٍ متشابهةٍ في ترسيخ أنماط الخضوع الطوعي، إذ لم يكن القهر المباشر وحده كافيًا لضمان استمرارية الهيمنة، بل كان لا بدّ من تأسيس منظومةٍ كاملةٍ تصوغ وعي الأفراد والجماعات وتجعلهم يرضخون بملء إرادتهم.

الإعلام والاقتصاد يصنعان أرضيّة الطاعة والخوف يمنحها غطاءً نفسيًا يُخدِّر العقول

ولعلّ الإعلام هو الأداة الأكثر حضورًا في هذا السياق؛ فمن خلال الصورة الموجَّهة والخبر المُنتقى بعناية، يُعاد تشكيل الإدراك الجمعي، فيرى الناس العالم كما تريد السلطة أن يروه، وتتحوّل الأكاذيب مع كثرة التكرار إلى حقائق بديهيّة لا تقبل الجدل. ومن خلف الإعلام يأتي الاقتصاد، حيث تُربَط معيشة الشعوب بمنظومة استهلاك متسارعة وديون متراكمة تجعلهم في حالة تبعيّة دائمة، رهائن لحاجاتهم اليومية، غير قادرين على التفكير في تجاوز ما فُرض عليهم من شروط.

وإذا كان الإعلام والاقتصاد يصنعان أرضيّة الطاعة، فإنّ الخوف يمنحها غطاءً نفسيًا يُخدِّر العقول؛ فالولايات المتحدة ترفع راية الحرية والديموقراطية كقدرٍ تاريخيّ، وإسرائيل تستحضر أسطورة "الشعب المختار" لتبرير مشروعها الاستعماري. وهكذا تتكامل الأدوات الأربع لتجعل من "العبودية المختارة" نظامًا راسخًا يصعب الفكاك منه، لأنّه لا يقوم على القهر المجرّد، بل على اقتناع الضحايا أنفسهم بجدواه.

إنّ فهمنا لمفهوم "العبودية المختارة" يكشف لنا أنّ الاستبداد لا يعيش بالقوة وحدها، بل يحتاج دومًا إلى "قبولٍ" من الضحية. هذا القبول هو ما تستثمره واشنطن وتل أبيب في سياساتهما الداخلية والخارجية، فتجعلان من الطاعة طقسًا مُقدّسًا، ومن الهيمنة قدرًا لا يُردّ. لكنّ وعي الشعوب، مهما تأخّر، يظلّ هو السبيل الوحيد لكسر هذه الحلقة الجهنّمية، وتحويل الطاعة المختارة إلى مقاومة مختارة.

"العبودية المختارة" تمنح المستبدّين القدرة على إعادة إنتاج سلطتهم

إذا كان الفرد في موقع السلطة مُستبدًّا، فذلك لأنّ الجماعة قد ارتضت الاستسلام وسلّمت له زمامها، وهذه الحقيقة تتجلّى بوضوح في السياسات الأميركية والإسرائيلية. فالولايات المتحدة لم تكن لتتحوّل إلى قوة عسكرية واقتصادية عابرة للقارات لولا أنّ مواطنيها قبلوا، عن قناعة أو خداع، أن يضحّوا بضرائبهم وأبنائهم في حروبٍ لا تنتهي، فاستمدّت السلطة قوتها من طاعتهم لا من بطشها. وكذلك إسرائيل، ما كان لها أن تفرض واقع الاحتلال على الفلسطينيين وتستمرّ في توسعها لولا أنّ المجتمع الدولي انصاع لروايتها التاريخية والدينية، وقَبِِل بأن يبرّر جرائمها تحت ستار حماية "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".

وهكذا يصبح الاستبداد انعكاسًا مباشرًا للخضوع، وتتحوّل "العبودية المختارة" إلى الحلقة الخفيّة التي تمنح المستبدّين في واشنطن وتل أبيب القدرة على إعادة إنتاج سلطتهم بلا انقطاع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن