تقدير موقف

ميليشيات قرب خط النهاية!

يسود اعتقادٌ أنّ منطقة شرق المتوسط، كانت المنطقة الأهم في العالم، التي عاشت ظاهرة الميليشيات في القرن الماضي. وللحقّ فإنّ لهذا الاعتقاد ما يبرّره، إذ كانت المنطقة على مدار القرن مسرح انقلابات وصراعات وحروب داخلية وخارجية، فاقت ما حدث في مناطق العالم الأخرى، ليس فقط نتيجة ما فيها من عوامل تفجير وتناقضات داخلية غذّت ظهور الميليشيات، بل نتيجة التدخلات الخارجية أيضًا، التي ساهمت في ولادة وشيوع وموت الميليشيات والميليشيات المضادّة.

ميليشيات قرب خط النهاية!

ولادة الميليشيات باعتبارها جماعات مسلحة، جاءت نتيجة ظروف وجهود متعدّدة، ساهمت في تشكيلها جماعات أهلية وأخرى سياسية. وفي أغلب الحالات، قامت دول بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ بتشكيل ميليشيات تتبعها، وذهبت الميليشيات مع غيرها نحو خطوط الصراع القائمة، وشنّ بعضها حروبًا في غالب الأحيان ضدّ جماعات أهلية أو حواضن لجماعات سياسية. وبين الحالتَيْن، شاركت بعض الميليشيات في حروبٍ ضدّ حكومات ودول في المنطقة، ومدّت حدود عملياتها خارج المنطقة في بعض الأحيان على نحو ما فعلت "القاعدة" وتفرّعاتها و"حزب الله" اللبناني مرّات كثيرة.

نتائج ما حصل في حرب فلسطين من خسارة الجيوش كانت بين أسبابٍ عزّزت فكرة تأسيس ميليشيات

إنّ المحور الأساسي في نشوء الميليشيات في المنطقة، كان صراعاتها. وفي سياق الصراع العربي - الإسرائيلي، وُلدت تنظيمات مسلحة شكّلتها الحركة الصهيونية في فلسطين بدايات القرن الماضي، ومنها "هاغاناه" التي صارت لاحقًا الهيكل الأساسي للجيش الإسرائيلي الذي كرّس وجود إسرائيل في حرب العام 1948. وشكّل العرب تنظيماتٍ موازيةً، كان بينها جيش الإنقاذ لمواجهة الميليشيات اليهودية ومنع قيام إسرائيل، لكنّ النتائج العمليّة جاءت مخيبةً لآمال العرب.

إنّ نتائج ما حصل في حرب فلسطين من خسارة الجيوش وظهور الميليشيات، كانت بين أسبابٍ عزّزت فكرة تأسيس ميليشيات سواءً لجهة دعم جيوش قائمة في بعض البلدان مثل الحرس القومي في العراق وسوريا اللذَيْن شكّلهما حزب البعث بعد سيطرته على السلطة في العراق وسوريا عام 1963 لإحكام قبضته على البلدَيْن. أو في إطار مساعي قوى سياسية لخوض صراعٍ مسلحٍ في بعض دول المنطقة أو معها على نحو ما فعل الأكراد من تأسيس ميليشيات في العراق وإيران لإقامة كِيان كردي بقيادة الملّا مصطفى البرزاني. أو كما فعل الفلسطينيون أواسط الستينيّات في تشكيل تنظيمات مسلّحة لمحاربة إسرائيل.

وكانت التجربة الفلسطينية عبر أهدافها وشعاراتها في عقودها الأولى تجديدًا لتجارب جماعاتٍ قائمةٍ، بل إنّها فتحت باب ولادة تنظيمات مسلحة في الكثير من بلدان المنطقة منها لبنان وسوريا والعراق وتركيا وإيران. وأغلب هذه الجماعات دخلت في صراع سياسي / عسكري مع حكوماتها، مثل "الطليعة المقاتلة" المولودة من صلب "الإخوان المسلمين" السوريين. وتمّ استغلال بعض الجماعات من أنظمة محلّية وأجنبية في صراعات المنطقة، وكلّ ذلك أضعف دول المنطقة وعزّز تحوّلها إلى بلدان ديكتاتورية بوليسية خاصة بعد حروب، كانت أبرزها الحرب في الأردن 1970-1971 وحرب لبنان التي بدأت عام 1975، وما زالت تفاعلاتها تتوالى على المستويَيْن الداخلي والإقليمي.

غير أنّ ضعف وتدهور الموجة الفلسطينية من التنظيمات المسلحة بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982، دفع إلى صعود تيار دولة الملالي الإيرانية من الميليشيات المسلحة، حيث أطلق تجاربه الخاصة بالنسخة الشيعيّة وبينها "الحرس الثوري / الباسيج"  في إيران و"حزب الله" في لبنان. ثم سعى للسيطرة على تنظيماتٍ سنيّة المذهب، وضمّها إلى تيّارٍ يقوده باسم تيار المقاومة والممانعة بينها حركتا "حماس" و"الجهاد" الفلسطينيتان وتنظيمات تتبع بعض فروع "الإخوان المسلمين"، التي ساندت مساعي إيران في فرض هيمنتها على العالم الإسلامي، وتحويل بلدانه وقضاياه إلى أوراقٍ في خدمة استراتيجية إيران وعلاقاتها الإقليمية والدولية وخاصةً ما يتّصل منها بملفَّيْ السلاح النووي والصواريخ الباليستية.

التطوّرات الأخيرة جعلت ميليشيات شرق المتوسط وتيارها الإيراني على أعتاب خط النهاية

لقد بدّل تيار إيران من الميليشيات استراتيجيته في المنطقة، عبر جهدٍ تشاركت فيه دولة الملالي وأجهزتها الأمنية العسكرية مع الميليشيات التابعة لها في عموم المنطقة، فأثار الصراعات والحروب في دول المنطقة وبينها، وأحكم سيطرته على بعض بلدان المشرق، كان في سياقها مدّ وجود ونفوذ طهران إلى بيروت مرورًا ببغداد ودمشق، ممّا مهّد لحرب أميركية - إسرائيلية مع إيران وميليشياتها الحليفة، التي تلقّت ضربات وضعتها على خط النهاية وفق ما هو حال "حزب الله" و"حماس". وكان من نتائجها، أن أحدثت تبدّلًا عميقًا في النظامَيْن الحاكمَيْن في دمشق وبيروت، فأسقطت نظام بشار، وعدّلت النظام اللبناني.

وإذ جعلت التطوّرات الأخيرة ميليشيات شرق المتوسط وتيارها الإيراني على أعتاب خط النهاية، فإنّ ذلك لم يكن نتيجة تدمير قدراتها فقط، التي كثيرًا ما كانت تهدّد بها الأقربين، بل أيضًا نتيجة تدمير القوى الراعية أو تحجيمها، حيث صارت إيران عاجزةً عن استمرار دعمها السابق للميليشيات وعلى رأسها "حزب الله". وسقط نظام الأسد في سوريا، ففقدت الميليشيات ساحة وجود وتمركز هامّة وعلنية يصعب تعويضها. ودفعت التطورات لبنان إلى موقفٍ كان من الصعب تصوّره، حيث تتكثّف مساعٍ رسمية وشعبية، تعمل على نزع ما تبقى من سلاح "حزب الله" والتنظيمات الفلسطينية. بل إنّ العراق المحكوم من ميليشيات حليفة لطهران، يسعى إلى صيغٍ تُخفّف مظاهر علاقة السلطة بالميليشيات، ونحو الأقل من مؤشرات ربط الأخيرة مع طهران، وكلها بين علامات نهاية زمن الميليشيات في المنطقة. والأمر في هذا، ليس حكرًا على ما يُصيب الميليشيات الشيعيّة، بل إنّ الأشكال الأخرى أيضًا على الطريق، بما فيها الميليشيات المنتشرة في سوريا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن