صحافة

روسيا العائدة أم الدب الذي لم يعد يخيف أحدا؟

صبحي حديدي

المشاركة
روسيا العائدة أم الدب الذي لم يعد يخيف أحدا؟

عادت الولايات المتحدة إلى منطقة الشرق الأوسط لتجدها تغيرت بشدة خلال السنوات الأخيرة، ولتدرك أنه صار بها أكثر من موطئ قدم وموضع نفوذ للقوى العظمى المنافسة. عن روسيا أكتب اليوم. نجحت روسيا في استغلال النتائج الكارثية لتقلبات السياسة الأمريكية منذ 2001 بين تدخلات عسكرية ورغبة في الهيمنة المنفردة على الشرق الأوسط وبين التردد الاستراتيجي والتراجع عن التعهدات الأمنية المقدمة للحلفاء الإقليميين والانسحاب العسكري لكي تعيد صياغة أدوارها في المنطقة فيما وراء مواضع نفوذها التقليدية.

قدمت موسكو نفسها للشرق الأوسط كقوة استقرار تبحث عن التعاون العسكري والأمني والاقتصادي والتجاري مع جميع حكومات المنطقة دون أن تخير الشرق أوسطيين بينها وبين تحالفاتهم القائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية. تركت موسكو واشنطن تضع القيود على صادرات السلاح للمنطقة، وعرضت هي سلاحها دون شروط. وظف صناع القرار في الرئاسة الروسية وفي الأجهزة الدبلوماسية حالة الغموض التي صنعتها تقلبات السياسة الأمريكية فيما خص أمن الشرق الأوسط، وحاولوا هم تصدير صورة جديدة لروسيا كقوة عظمى قادرة على التدخل العسكري والأمني المباشر للدفاع عن أصدقائها وتستطيع أيضا التأثير على تطورات ونتائج الصراعات الدائرة في المنطقة ولا تعارض الحلول الدبلوماسية لإنهائها.

عملت روسيا على مد شبكات تصدير السلاح والتعاون الأمني والاقتصادي والتجاري بحيث لم يمنع دورها في سوريا من صياغة علاقة استراتيجية مع إسرائيل. ولم يمنعها القرب من إسرائيل من الحفاظ على روابطها القوية مع إيران على الرغم من العداء المستمر والمتصاعد بين تل أبيب وطهران. ولم تمنع علاقات التعاون والتنسيق مع إسرائيل وإيران موسكو من أن تصدر السلاح إلى السعودية والإمارات ومصر وتركيا وأن ترفع معدلات التعاون معها ومع الجزائر في شمال إفريقيا. بل ونجح صناع القرار الروس في تطوير تحالفات مصلحة مع حكومات الشرق الأوسط فيما خص أسعار الطاقة العالمية التي تريد موسكو والعواصم الخليجية الحفاظ على ارتفاعها الراهن دعما لموازناتها العامة، ومزجوا بين ذلك وبين الاتفاق مع مصر والجزائر على بناء مفاعلات نووية بتمويل وتكنولوجيا من روسيا.

الهدف الاستراتيجي الواضح للأدوار الروسية في الشرق الأوسط هو عدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية بالتعامل مع المنطقة كالقوة المهيمنة الوحيدة والضغط في اتجاه تبلور نظام أمني جديد يرث الانفرادية الأمريكية التي مثل غزو العراق في 2003 النقطة الأعلى في تاريخها القصير (1991-2003) وتشارك بصياغته القوى العظمى كلها، أي الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا، ومعها الأطراف الإقليمية المؤثرة.

لذلك، وإن ابتعدت موسكو عن المواجهة المباشرة مع واشنطن في منطقتنا، فإنها سعت لتهديد المصالح الأمريكية بتقديم نفسها للشرق الأوسط كقوة بديلة لا تتقلب سياساتها بتغير الإدارات وتستطيع التعاون العسكري والأمني والتنسيق فيما خص أسعار الطاقة بعيدا عن خطوط الصراع التقليدية بين إسرائيل وإيران وبين الأخيرة ودول الخليج وبين تركيا والعديد من الأطراف العربية.

لذا لم يكن غريبا أن تصطف إيران مع روسيا بعد أن أطلقت آلتها العسكرية على أوكرانيا وأن ترفض إدانة العدوان الروسي وتمتنع عن تطبيق العقوبات الغربية. غير أن الصدمة الأمريكية جاءت مع ابتعاد حلفاء واشنطن والغرب في الشرق الأوسط عن الإدانة الصريحة لروسيا وعن تطبيق العقوبات. حكومات السعودية والإمارات ومصر وتركيا، بل وحكومة حليف واشنطن الأول في المنطقة إسرائيل، جميعها رفضت تطبيق العقوبات وأبقت على تعاونها وتنسيقها مع موسكو دون تغيير.

بل أن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي رفضت ضغوط إدارات واشنطن لرفع معدلات إنتاجها من النفط والغاز الطبيعي لكي تنخفض الأسعار الحالية للطاقة ومكنت دول الخليج بذلك روسيا من الحفاظ على حصيلتها العالية من صادرات الطاقة، وعاقبت من جهة أخرى الولايات المتحدة إبان إدارة بايدن على تجاهلها المتكرر لحلفاء أمريكا العرب وحديثها عن توجهها بعيدا عن الشرق الأوسط ورغبتها في تجديد الاتفاق النووي مع إيران دون اعتبار لمخاوف الخليج.

خلال السنوات الماضية، حصدت روسيا بعضا من ثمار تحالفات المصلحة مع حكومات الشرق الأوسط وسياساتها البراغماتية التي لم تضع شروطا على التعاون مع الجميع وعملت على تقديم صورة جديدة لروسيا قوية وقادرة على التدخل العسكري وتصدير السلاح والتكنولوجيا وتقديم التعهدات الأمنية، صورة جديدة تختلف عن ما بقي في ذاكرة العرب والشرق أوسطيين من ماضي الاتحاد السوفييتي الضعيف في ثمانينيات القرن العشرين ثم روسيا المنهارة والمستسلمة للهيمنة الأمريكية منذ تسعينياته.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن