بصمات

خوف الدول العربيّة: تحليل نفسي!

يُتيح لنا التحليل النفسي فهم خوف الدول العربيّة من إسرائيل باعتبارها ليست مجرّد مُعطى واقعي لتوازن القوى، وإنّما تكوينًا رمزيًا يتداخل فيه اللاّوعي المؤسّسي مع مسوّغات ما يبدو ظاهرًا في اللعبة السياسية بكلّ تعقّداتها.

خوف الدول العربيّة: تحليل نفسي!

من هذا المُنطلق، يمكن اعتماد منهجية تحليلية تقوم على ثلاثة محاور مُتداخلة: التركيب الرمزي، وآليات الدفاع المؤسّسي، وديناميّات العلاقة بين الدّاخل والخارج.

أولًا، يجب قراءة صورة "إسرائيل" داخل الخطاب والقرار العربي على أنّها رمز مزدوج: هي، من جهة، خصم خارجي ملموس بقوة عسكريّة وسياسيّة، ومن جهة أخرى مرآة تعكس عُقدةً مُعمّقةً في ذات السلطة، تلك العقدة التّي قد تسمّى عقدة العجز أو عقدة الهزيمة. هذه الصّورة لا تولّدها الوقائع وحدها، بل يُعاد إنتاجها عبر سرديّاتٍ تاريخيةٍ، وتذكيرٍ دائمٍ بالهزائم، وتصوير الاستثناء الغربي الذّي يدعم الطرف المقابل. لذلك، يصبح الخوف جزءًا من هويّة السلطة؛ هويّة تتشكّل بإخضاع الذّات لمعيار المقارنة مع "الآخر المتفوّق" وتُنتج سياساتٍ تحكمها رغبة الحفاظ على البقاء قبل الطموح إلى التغيير.

إسقاط الأزمات الدّاخلية على العدو الخارجي لتبرير السياسات القمعية

ثانيًا، يتعيّن فحص آليات الدّفاع النّفسي المؤسّسي التّي توظّفها الأنظمة لتدبير هذا الخوف. وكما هو شأن الأفراد وهم يحتمون بالآليات النّفسية من خلال الكبث والتبرير والإسقاط، فإنّ المؤسسات الدّولتيّة كذلك تحتمي بأشكالٍ موازيةٍ، ككبتها للحوار الداخلي حول مسألة أسباب ضعفها الذّاتية، وتبرير الاختيارات السياسية والمواقف عبر مسكوكات مكرورة مثل إعلائها لخطاب "الحكمة" و"الاستقرار الداخلي" و"الحفاظ على سلامة الشعب"، فضلًا عن إسقاطها المشكلات والأزمات الدّاخلية على العدو الخارجي تبريرًا للسياسات القمعية عبر حيل خطاب "التوحيد الوطني".

هذه الآليات الدّفاعية لا تخضع دائمًا لوعي صانعي القرار؛ بل تعمل كعملياتٍ تلقائيةٍ تُعيد إنتاج الوضع القائم، وتمنع إحداث مراجعات استراتيجيّة فعليّة. وقد تبرز ظاهرة التماهي الجزئي مع الآخر المتفوّق كآليةٍ دفاعيةٍ مُضادّةٍ، تسعى بشكلٍ غير معلن إلى الاقتراب من نموذج الكفاءة أو الحماية، ضدًّا على المصالح العليا للمجتمع، وذلك عبر اتفاقات أمنيّة أو اقتصاديّة قد تؤدّي في الغالب إلى تناقضٍ محتدمٍ بين خطاب الشعب والسلوك الحكومي السلطوي.

الامتناع عن الحرب استراتيجية دفاعية ضد أي احتمال يُزعزع مصالح السلطة

ثالثًا، في سياق تفسير العلاقة المتوتّرة بين الخوف من الخارج والخوف من الداخل، يتّضح أنّ السلطة أمام خشيتها من انقسام الداخل، أي الثورات الاجتماعية، تُفضّل الاحتيال على الاستقرار الدّاخلي بعقد توافقاتٍ فيها الكثير من التنازلات الخاطئة للقوى الخارجية، اعتقادًا منها أنّها صمام أمنها في الحالات التي يُهدَّد فيها وجودها. هنا يصبح الامتناع عن الحرب باسم الأمة أو العروبة أو الدّين، استراتيجيةً دفاعيةً ضدّ أي احتمال يُزعزع مصالح السلطة، لذلك نلحظ أن الخطابَ هنا ينزاح إلى الدفاع عن مصلحة الدولة، لإكساب الخطاب السلطوي طابع العقلانيّة.

في هذا الأمر، يُبرز التّحليل النّفسي ازدواجية الخطاب الرسمي العربي القائم على خطابٍ يُضمر مصلحة السلطة في الخطاب حول أمن الدّولة ومصلحتها. يُفسِّر هذا التجاذب النفسي اختلاط واقع قبول الإهانة من طرفِ الكيان الإسرائيلي بواقع الخوف من فقدان السلطة تحت مبرّر شرعية الدّولة. لذلك، فكلّ تحرّك عسكري دفاعًا عن العروبة والكرامة، هو مخاطرة من منظور الحكام العرب، قد تقود الأمّة إلى أزمة وجود، مع العلم أنّ الحقيقة غير ذلك.

الحكمة تقتضي تحويل الخوف المكبوت إلى الوعي ببناء القدرات الجماعية

إنّ قراءة السلطة في البلاد العربيّة عبر منظور التحليل النفسي، لا تُلغي أهمية العوامل الماديّة في سياق التوازنات العسكريّة والاقتصادية والتّكنولوجيّة، بل تزوّدها بفهمٍ أعمقٍ لكيفية تفسير هذه العوامل وتوظيفها في قراءةٍ داخليةٍ للعقلية السياسية المؤسّسية. فالحكمة الحقيقية في السياسة تقتضي أخيرًا تحويل الخوف المكبوت إلى الوعي ببناء القدرات الجماعية في أفق مواجهةٍ حقيقيةٍ ومحسوبة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن