طوفان من القنابل المدمّرة وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمشرّدين بموازاة حياة حوالي عشرين رهينة إسرائيلية لا يعرف العالم ماهيّتهم، ولا يزالون في أيدي خاطفيهم "الأسطوريين"، ولا يبدو أن الأرض التي تتعرّض لإبادة جماعية في غزّة ضيّقة إلى هذا الحدّ، على حدّ تعبير الشاعر محمود درويش.
تتقدّم خريطة الرئيس الأميركي للسلام، كما لو أنّ السلام ليس بعيد المنال في سياق الإلحاح الأميركي للانتهاء من الحرب، وربّما هو الإلحاح لنيل "جائزة نوبل للسلام". لكنّه أيضًا الإلحاح الوجودي لمئات الآلاف من الناس، لشعبٍ فلسطينيّ بأكمله ولشعوب العالم والمنطقة، التي تعبت من صور الحرب المأساوية.
العالم يصرّ على حلّ الدولتَيْن لكن الأرض تتبخّر
تحمل خريطة طريق ترامب أبعادًا رمزيةً أكثر، ولكنّها تاريخية، إذ تأتي بعد المبادرة الفرنسية - السعودية الشجاعة لحلّ الدولتَيْن، وتأكيد العالم على إنسانيته المشتركة، وأنّ الشعب الفلسطيني ليس شعبًا فائضًا، بل هو جزء أساسي من العالم. ففلسطين المستقبل رؤية لا تتلاشى بسهولة، والعالم كلّه تقريبًا اعترف بالدولة الفلسطينية، لكن ما يدعو للخوف أنّ الاعتراف لن يُحدث تغييرًا على أرض الواقع. فالدولة الموعودة تختفي من المشهد، فقد حوّلت إسرائيل غزّة إلى أرضٍ محروقةٍ ومُقفرة، ووزير مالية إسرائيل بتسلئيل سموتريتش يخنق السلطة الفلسطينية ويحجب الأموال عنها في إطار خطته لفرض رؤيته لضم الضفّة الغربية المُنقسمة إلى جزرٍ صغيرةٍ بفعل جدار الفصل العنصري. ويقول بنيامين نتنياهو صراحة إنّ "مشروعه هو إسرائيل الكبرى"، وهو القومي المتشدّد.
لقد حصل الضمّ والتوسّع بالفعل، والمفارقة أنّ زيادة صورة الدولة الفلسطينية قوةً في الخارج يجعلها أضعف وأكثر حصارًا في الداخل. والفلسطينيون يعيشون جحيمًا من الدمار في غزّة. أمّا في الضفّة، فيختنق الاقتصاد وتُهمّش السلطة الفلسطينية في المفاوضات الجارية، والنظام المصرفي الفلسطيني مرتبط بإسرائيل التي أوقفت التحويلات، والفلسطينيون بعد الانتفاضة الثانية يعتمدون على العمل في إسرائيل، فيما عدد المستوطنين يتصاعد في الضفّة منذ العام 2018، ويشكّلون الآن 18%.
العالم يصرّ على حلّ الدولتَيْن، لكن الأرض تتبخّر، وحلّ الدولة الواحدة بات مجرّد وهم. والنتيجة أنّ الفلسطينيين باتوا يبحثون عن تسوياتٍ جديدةٍ مع الكيان المحتلّ، وقد يكتفون بالحقوق الاقتصادية والخدماتية، أو التفكير بالهجرة. ثم يبقى العالم إلى حين أسير أسلوب ترامب في التنمّر والتهديدات والسيطرة على مسارات التفكير الأميركي، مع أنّ خطته التي ترسم إشارةً قويةً قد تطول، تستهدف ملامحها دفع عملية السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.
القادة العرب مُلزَمون بإعادة النظر في خطاباتهم وفي بعض الافتراضات الراسخة في مواجهة التهديدات الخارجية
قد يتعب العالم من توجيه الاتهامات لإسرائيل، وفي مقارباته التي تُثير جدلًا، والأمور تزداد تعقيدًا مع إصرار نتنياهو أكثر من أي وقت مضى على أنه "لن يكون هناك دولة فلسطينية"، ما ينذر بعواقب وخيمة مع استمرار الحرب ومع صعوبة رسم خطوط واضحة بين الخير والشرّ في السياسة العالمية اليوم، لا سيما حين تستقبل الدولة العبرية مزيدًا من الدعم العسكري واللوجستي لتشجيعها على التوحشيّة والبربرية وسط الحركة الديبلوماسية المتقلّبة، التي تُهيمن عليها في الغرب مصالح قصيرة النظر.
مع ذلك، هناك أمر واحد مؤكّد، غضَب العالم من إسرائيل، والضغط الجدّي بتصويت معظم أعضاء الجمعية العمومية في الأمم المتحدة على الاعتراف بالدولة الفلسطينية. قد تكون المبادئ حقيقيةً مع سيل التصريحات، لكن يجب أن تكون السياسة دائمًا قابلة للمراقبة والنقد من منظور أخلاقي. قوة القانون تزن قوة الأقوى، ومن مصلحة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ضمان البناء على هذا الضغط قويًا على دولة الاحتلال، وذلك من خلال إدارة سياسية عربية - إسلامية تُفكّك الدعم الأميركي لإسرائيل الذي يهدّد العالم.
المواقف ليست سيئةً في اختبار القمم العربية التقليدية (أضيفت إليها المشاركة الإسلامية)، والالتزام باللقاء المفتوح حول مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطر. إنّ قدرة العرب والمسلمين على ابتكار حلول، ومنها اتفاقية التعاون العسكري السعودية – الباكستانية، خطوة أساسية لكي تبني شيئًا جديدًا، وكي لا تكرّر المواقف نفسها لمواجهة أشكال من الكراهية للعرب والمسلمين تجاوزت كلّ الحدود في حجم جرائم الإبادة الجماعية التي تُرتكب ضدّ الفلسطينيين. ذلك أنّ القادة العرب مُلزَمون بإعادة النظر في خطاباتهم وفي بعض الافتراضات الراسخة في مواجهة التهديدات الخارجية المتزايدة. تتحرّك الأمور ببطء، ولكن بثبات في ضرورة تعزيز الدفاعات العربية.
ترامب يعمل على تقسيم العالم ومصادرة قرار حلفائه التقليديين ويضع الغرب في مواجهة نفسه
إنّها الرؤية المثالية بعض الشيء. فالرئيس ترامب على النّقيض من هنري كيسنجر، وعلى عكس رؤيته تمامًا، يعمل على تقسيم العالم بدل توحيده ضدّ الأنظمة الاستبدادية، ويعمل على مصادرة قرار حلفائه التقليديين، ويسعى إلى الانسحاب من التزامات التحالفات الدولية. إنّه يضع الغرب في مواجهة نفسه، وآثار الشكوك بادية حول التزامات واشنطن تجاه أمن أوكرانيا وتايوان والخليج العربي، وقد تكون نقيض الإرث الديبلوماسي الأميركي الموثوق عالميًا.
"كفى دموع ودم"، عبارة قالها رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين قبل عامَيْن من اغتياله على يد مواطن يهودي متطرّف، فيما كان يصافح ياسر عرفات أمام البيت الأبيض. كان ذلك في 13 سبتمبر/أيلول 1993، ولا يزال هذا الحدث ذا صلة حتى اليوم.
(خاص "عروبة 22")