مع التسليم بطموحات روسيا في جنوب شرقي أوكرانيا، حيث غالبية السكان من أصول روسية، لا يمكن استبعاد الدور الأمريكي في إشعال الحرب المستمرة منذ ثلاث سنوات حين رفضت إدارة الرئيس السابق جو بايدن القبول بأي ضمانات لأمن حدود روسيا الغربية. ورغم أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب يبالغ في انتقاداته للإدارة السابقة إلا أن اتهاماته لإدارة بايدن في هذا الصدد بها قدر من المنطق.
كانت الإدارة السابقة تعتمد استراتيجية مواجهة صعود الصين وروسيا عبر تعزيز إقامة تحالف غربي بقيادة أمريكية بما "يضرب عصفورين بحجر واحد": النيل من منافسي أمريكا كقوة عظمى وحيدة في عالم ما بعد الحرب الباردة واستعادة دور أمريكا العالمي بقيادتها لتحالف غربي واسع. وبالتوازي مع فرض العقوبات غير المسبوقة على روسيا كانت سياسة العقوبات على الصين أيضاً في تصاعد مع محاولات لفك أي ارتباط بين موسكو وبكين.
أما إدارة ترامب فهي ليست معنية بهذه الاستراتيجيات، ولا تهمها السياسات طويلة الأمد، وإن كانت لا تختلف على ضرورة التصدي لمنافسي أمريكا في العالم. لكن الطريقة تختلف؛ فترامب شخصياً يحبذ دائماً "نتائج فورية" حتى لو لم تكن ذات أهمية كبيرة على المدى المتوسط والطويل، بل وربما تأتي بنتائج عكسية. فالاستراتيجية الوحيدة التي تهم الرئيس ترامب هي المال والثروة، وعلى أساسها يتصرف في كل سياساته الداخلية والخارجية. لذا يريد وقف الحرب في أوكرانيا باتفاق يمكنه من تحقيق مكاسب للولايات المتحدة في أوكرانيا ومع روسيا اقتصادياً ومالياً. وما الحرب التجارية العالمية التي أشعلها بفرض الرسوم الجمركية الباهظة على شركاء أمريكا التجاريين حول العالم سوى طريقته – حسب تصوره – لاستعادة دور أمريكا الريادي عالمياً بتحقيق مكاسب مالية على حساب الآخرين.
من هناك كانت التعريفة الجمركية على الصين أعلى بكثير من غيرها مثلاً. إنما أيضاً على الاتحاد الأوروبي تأتي التعريفة الجمركية كبيرة رغم أن الفائض التجاري ليس كبيرا ومع توقيع اتفاق تجارة جزئي بين بروكسيل وواشنطن. ذلك ببساطة لأن ترامب لا يهمه "تحالف غربي موسع بقيادة أمريكية" مثل إدارة بايدن السابقة. إنما تصوره أن تحقيق عائدات مالية من رسوم على الشركاء وعقوبات على بعضهم ستجعل أمريكا "أغنى وبالتالي أقوى". وفي المفاوضات مع الصينيين، يستخدم ترامب زيادة التعريفة الجمركية كورقة ضغط لتحقيق مكاسب في اتفاقيات تجارية مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم. المهم أن تحقق واشنطن عدة تريليونات من الدولارات من حصيلة التعريفة الجمركية على دول العالم بما يسد جزءاً من فجوة العجز المالي الأمريكي.
يدرك الصينيون ذلك، كما تدركه روسيا أيضاً، ويتعاملون على أساسه في محاولة لتقليل الخسائر في التعامل مع إدارة ترامب. فبكين لا يمكنها خسارة السوق الأمريكية لصادراتها، كما أنها تحتاج إلى استثمارات أمريكية وحتى مع تقدمها التكنولوجي تحتاج إلى واردات تكنولوجيا من شركات أمريكية. لكن الاضطراب في سلاسل الإمداد والتوريد العالمية الناجم عن حرب ترامب التجارية وإن كان في ظاهره يضر بمكانة الصين في منظومة التجارة العالمية، إلا أنه فتح أيضاً باباً للصناعة الصينية لتعزيز نقل عملياتها للخارج لتفادي الرسوم والعقوبات وضمان الاستدامة في الوصول إلى الأسواق. فشركات السيارات الصينية تبني مصانع في أوروبا في المجر وتركيا وغيرها، بل وفي البرازيل وكاليفورنيا. كما تفتح الصناعات الصينية الأخرى، بما فيها التكنولوجية، عمليات لها في دول آسيوية وإفريقية.
ولعل الهدية التي قدمتها إدارة ترامب للصين، بدون قصد طبعاً وكناتج ثانوي لسياسات أمريكا الحالية، هي تعزيز الصين هيمنتها على الأسواق الآسيوية وزيادة التعاون الاقتصادي والاستثماري مع دول صاعدة مثل فيتنام وغيرها. وبما أن الصين تعمل على زيادة الإنفاق الاستهلاكي المحلي فإن دولاً آسيوية مثل تايلاند وماليزيا وإندونيسيا وغيرها من الدول التي تعرضت لفرض التعريفة الجمركية الأمريكية تتجه لزيادة تجارتها مع الصين.
إنما هدية ترامب الأكبر للصين ربما جاءت باستهداف واشنطن للهند، ما يبدو أنه يدفعها لإصلاح علاقتها التي كانت مأزومة مع بكين. فقد تعمدت إدارة ترامب زيادة التعريفة الجمركية على الصادرات الهندية بشكل كبير، ثم فرضت عقوبات عليها لاستيرادها النفط الروسي. لم تكن المبررات الاقتصادية أو الاستراتيجية وراء قرار الإدارة الأمريكية، بل غضب ترامب من نفي الهند القاطع أن أمريكا كان لها أي دور في وقف القتال بينها وبين باكستان في شهر مايو الماضي، بعدما أعلن ترامب أنه هو من أوقف القتال.
صحيح أن العلاقات بين الهند والصين لم تعُد بعد إلى طبيعتها لكن المؤشرات على تحسنها تبدو واضحة، خاصة مع زيارة مسؤول صيني كبير للهند والبحث في الخلافات الحدودية. وبالطبع لن تكون التجارة والتعاون الاقتصادي والاستثماري غائبة عن التقارب الهندي الصيني. وكما أكدت الهند أنها مستمرة في استيراد النفط الروسي فان تعزيز تعاونها مع الصين سيأتي على حساب مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في المنطقة. وربما تستهدف الهند أيضاً التأثير في التعاون الصيني مع جارتها اللدود باكستان من خلال إصلاح علاقاتها مع بكين، ما يعطي الصين ميزة استراتيجية أخرى على حساب الدور الأمريكي. قد يوفر الرئيس ترامب للخزانة الأمريكية تريليونات الدولارات الآن، لكن سياسات إدارته لا تحقق مصالح استراتيجية أمريكية خاصة مع منافسي واشنطن وفي مقدمتهم الصين.
(الخليج الإماراتية)