تقدير موقف

التَّطَوُّراتُ في إيران: صِراعُ قِمَّةِ الهَرَمِ وَتَأْثيراتُهُ الإقليميَّة!

تَشْهَدُ إِيرانُ فِي السَّنَواتِ الأَخيرَةِ حالَةً مُتَسارِعَةً مِنَ التَّحَوُّلاتِ الدّاخِلِيَّةِ، لَيْسَتْ مُجَرَّدَ خِلافاتٍ سِياسِيَّةٍ عابِرَة، بَلْ هِيَ مُؤَشِّراتٌ على تَغَيُّراتٍ عَميقَةٍ فِي قَلْبِ النِّظامِ نَفْسِهِ، وَفِي طَبيعَةِ السُّلْطَةِ بَيْنَ "العَمائِمِ" مِنْ جِهَةٍ، وَ"العَسْكَرِ" مِنْ جِهَةٍ أُخْرى. وَهَذِهِ التَّحَوُّلاتُ تَعْكِسُ أَزْمَةً مُمْتَدَّةً مُنْذُ عُقودٍ، لَكِنَّها اليَوْمَ تَبْدو أَقْرَبَ إلى الِانْفِجارِ، بِسَبَبِ تَراكُماتٍ اقْتِصادِيَّةٍ واجْتِماعِيَّةٍ حادَّةٍ، وَتَراجُعِ قُدْرَةِ الدَّوْلَةِ على إِدارَةِ الداخِلِ، وَتَعَدُّدِ مَراكِزِ القُوَّةِ بِصورَةٍ خَرَجَتْ عَنْ سَيْطَرَةِ المُرْشِدِ الأَعْلى الذي يُشارِفُ على التِّسْعينَ مِنْ عُمْرِه.

التَّطَوُّراتُ في إيران: صِراعُ قِمَّةِ الهَرَمِ وَتَأْثيراتُهُ الإقليميَّة!

مِنَ المُفارَقاتِ أَنَّ النِّظامَ الذي قامَ على شِعارِ الثَّباتِ والمُقاوَمَةِ يَعيشُ اليَوْمَ أَكْثَرَ مَراحِلِهِ هَشاشَةً مُنْذُ 1979. وَقَدْ لَفَتَ مُحَمَّد جَواد ظَريف، وَزيرُ الخارِجِيَّةِ الإِيرانيُّ السّابِقُ، الأَنْظارَ مُجَدَّدًا بَعْدَ نَشْرِ مُذَكِّراتِهِ، التي تَضَمَّنَتْ نَقْدًا واضِحًا لِطَبيعَةِ "الدَّوْلَةِ المُوازِيَةِ" داخِلَ النِّظامِ، مُشيرًا إلى أَنَّ الحَرَسَ الثَّوْرِيَّ أَصْبَحَ اللّاعِبَ الأَقْوَى، وأَنَّ المُؤَسَّساتِ المَدَنِيَّةَ - بِما في ذَلِكَ وِزارَةُ الخارِجِيَّةِ نَفْسُها - أَصْبَحَت تَنْفيذِيَّةً فَقَط، لا تُقَرِّرُ شَيئًا. واعْتَبَرَ ظَريف أَنَّ دُوَلَ الخَليجِ، خِلالَ العَقْدِ الأَخيرِ، حَقَّقَتْ قَفَزاتٍ "مُذْهِلَةً" فِي التَّنْمِيَةِ، وأنَّها تَجاوَزَتْ إِيرانَ فِي مُؤَشِّراتِ التَّعْليمِ والبُنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ والتَّنافُسِيَّةِ والاسْتِثْمارِ، وَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ مَسْبوقٍ فِي الخِطابِ الإِيرانِيّ. هَذَا الاعْتِرافُ وَحْدَهُ يَكْشِفُ حَجْمَ التَّدَهْوُرِ الداخِلِيِّ، وَحَجْمَ التَّناقُضِ بَيْنَ خِطابِ النِّظامِ وإنْجازِهِ الفِعْلِيّ.

إِيران دولة مُمَزّقة بين مركز يريد البقاء بأي ثمن ومجتمع فقد الثقة في قدرة النخبة على بناء دولة عصرية مستقرّة

وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ، وَصَفَ عَدَدٌ مِنَ الباحِثينَ الإِيرانيِّينَ الوَضْعَ الحاليَّ داخِلَ قِمَّةِ الهَرَمِ السِّياسيِّ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ "الكَراسِيَ الدَّوارَةَ"، لا أَحَدَ يَجْلِسُ عَلَيْها طَويلًا وَلا أَحَدَ يَمْتَلِكُ القُدْرَةَ على الإِمْساكِ بِمَفاصِلِ القَرارِ كَامِلًا. فالمُؤَسَّسَةُ الدِّينِيَّةُ التي طَغَتْ فِي السَّنَواتِ الأولى لِلثَّوْرَةِ تَتَراجَعُ اليَوْمَ أَمامَ العَسْكَرِ، تَحْديدًا الحَرَسُ الثَّوْرِيُّ وأجْهِزَتُهُ الأَمْنِيَّةُ، الذينَ راكَموا نُفوذًا سِياسِيًّا واقْتِصَادِيًّا لا يُضاهِيهِ نُفوذُ أَيِّ مُؤَسَّسَةٍ أُخْرَى. وإذَا كَانَتْ تَجْرِبَةُ الدُّوَلِ العَرَبيَّةِ مَعَ حُكْمِ العَسْكَرِ قَدْ أَثْبَتَتْ فَشَلَها فِي التَّنْمِيَةِ والاسْتِقْرارِ، فَإِنَّ انْتِقالَ إِيرانَ المُحْتَمَلَ إلى قَبْضَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ كَامِلَةٍ قَدْ يُؤَدّي إلى المَزيدِ مِنَ القَمْعِ الداخِليِّ، والمَزيدِ مِنَ المُغامَراتِ الخارِجِيَّةِ لِتَعْويضِ الشَّرْعِيَّةِ المَفْقُودَةِ داخِلِيًا.

وَتَرْجِعُ جُذورُ الأَزْمَةِ إلى مَشْروعَيْنِ مُتَناقِضَيْنِ رافَقا الدَّوْلَةَ الحَديثَةَ فِي إِيرانَ مُنْذُ قَرْنٍ كَامِلٍ: مَشْروعُ رِضَا شاه الذي اتَّجَهَ نَحْوَ التَّحْديثِ القَسْريِّ مِنْ دونِ إِجْماعٍ مُجْتَمَعيٍّ، وَمَشْروعُ الخُمَيْنِي الذي أَعادَ الدَّوْلَةَ إلى أَنْماطٍ شِبْهِ تَقْليدِيَّةٍ مَمْزوجَةٍ بِخِطابٍ ثَوْريٍّ وأَمْنيٍّ مُرَكَّب. والفَشَلُ فِي كِلا النَّموذَجَيْنِ جَعَلَ إِيرانَ دَوْلَةً مُمَزَّقَةً بَيْنَ مَرْكَزٍ يُريدُ البَقاءَ بِأَيِّ ثَمَنٍ، وَمُجْتَمَعٍ فَقَدَ الثِّقَةَ فِي قُدْرَةِ النُّخْبَةِ على بِناءِ دَوْلَةٍ عَصْريَّةٍ مُسْتَقِرَّة.

التغيُّرات المحتملة في إيران يجب أن يقرأها الخليج بواقعيّة

وَتُواجِهُ إِيرانُ اليَوْمَ واحِدَةً مِنْ أَكْبَرِ أَزَماتِها الاقْتِصادِيَّةِ فِي تاريخِها: بِطالَةٌ مُرْتَفِعَةٌ، تَضَخُّمٌ مُتَصاعِدٌ، هِجْرَةٌ واسِعَةٌ لِلْعُقولِ، وَتَراجُعٌ خَطيرٌ فِي قيمَةِ العُمْلَة. وَوِفْقَ مَرْكَزِ الأَبْحاثِ البَرْلَمانيِّ الإِيرانيِّ، فَإِنَّ ثُلُثَ الشَّعْبِ تَحْتَ خَطِّ الفَقْرِ، وأَنَّ شَرائِحَ واسِعَةً غَيْرُ قادِرَةٍ على تَحَمُّلِ الإِيجاراتِ أَوْ شِراءِ المَسْكَن. وَهَذِهِ مُؤَشِّراتٌ تَدُلُّ على احْتِقانٍ اجْتِماعيٍّ عَميقٍ قَدْ يَنْعَكِسُ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ على اسْتِقْرارِ الدَّوْلَة.

أَما الصِّراعُ بَيْنَ "العَمائِمِ" وَ"اللّيبيراليِّينَ" فَقَدْ تَلاشَى، لِيَحُلَّ مَحَلَّهُ صِراعٌ أَوْضَحُ بَيْنَ "العَمائِمِ" وَ"العَسْكَر". فالتَّيارُ الإِصْلاحيُّ أَصْبَحَ مُجَرَّدَ وُجودٍ رَمْزيٍّ، والمُرْشِدُ يَتَقَدَّمُ في السِّنِّ، والحَرَسُ الثَّوْريُّ هُوَ المُؤَسَّسَةُ الأَكْثَرُ جاهِزِيَّةً لِوِراثَةِ السُّلْطَةِ، سَواءٌ عَبْرَ رَئيسٍ مُقْبِلٍ أَوْ عَبْرَ مَجْلِسِ طَوارِئَ يَفْرِضُ أَمْرًا واقِعًا بَعْدَ رَحيلِ المُرْشِد.

وَهَذا الوَضْعُ يَجْعَلُ مُسْتَقْبَلَ إِيرانَ عامِلًا مُباشِرًا فِي أَمْنِ الخَليجِ واسْتِقْرارِه. فَبَلَدٌ بِهَذا الحَجْمِ، إِذا دَخَلَ مَرْحَلَةً انْتِقاليَّةً غَيْرَ مَحْسوبَةٍ، قَدْ يَنْعَكِسُ اضْطِرابُهُ على العِراقِ وَلُبْنانَ واليَمَنِ وَسوقِ الطّاقَةِ وَطُرُقِ المِلاحَة. وَهُنا يَظْهَرُ السُّؤالُ الذي يَهُمُّ دُوَلَ الخَليجِ في هَذِهِ اللَّحْظَةِ: كَيْفَ يُمْكِنُ التَّحَوُّطُ لِهَذِهِ التَّغَيُّراتِ المُحْتَمَلَة؟.

إِيران تقف على مفترق طرق فعلي واستقرارها أو اهتزازها لن يبقَى داخل حدودها

وَمَعَ اقْتِرابِ مَوْعِدِ القِمَّةِ الخَليجيَّةِ الـ46 فِي البَحْرَيْنِ يَوْمَ 4 ديسَمْبِر/كَانونَ الأَوَّلِ الجاري، تُصْبِحُ هَذِهِ الأَسْئِلَةُ أَكْثَرَ إِلْحاحًا. فالتَّغَيُّراتُ المُحْتَمَلَةُ فِي إِيرانَ، سَواءٌ انْتِقالٌ مُبَكِّرٌ لِلسُّلْطَةِ أَوْ صِراعٌ داخِلَ البَيْتِ الثَّوْريِّ أَوْ صُعودٌ كامِلٌ لِلْعَسْكَرِ، كُلُّها احْتِمالاتٌ يَجِبُ أَنْ يَقْرأَها الخَليجُ بِواقِعِيَّة. وَقَدْ لا تَظْهَرُ هَذِهِ الاسْتِعْداداتُ فِي الوَثائِقِ العَلَنِيَّةِ لِلْقِمَّةِ، لَكِنَّها بِلا شَكٍّ سَتَكُونُ جُزْءًا مِنْ عَمَلِ الأَجْهِزَةِ المُساعِدَةِ لِمَجْلِسِ التَّعاوُنِ، عَبْرَ سينارْيواتٍ تَتَعَلَّقُ بِأَمْنِ الطّاقَةِ، أَمْنِ الحُدودِ، التَّعامُلِ مَعَ الفَوْضى المُحْتَمَلَةِ فِي العِراقِ، وَرَصْدِ أَيِّ بَوادِرَ لِتَغَيُّراتٍ فِي بُنْيَةِ الحَرَسِ الثَّوْريِّ قَدْ تُؤَثِّرُ على سُلوكِ وُكَلائِهِ فِي المِنْطَقَة.

فالتَّحَوُّطُ لا يَعْني القَلَقَ، بَلِ الاسْتِعْدادُ المُبَكِّر. والخَليجُ، بِخِبْرَتِهِ فِي إِدارَةِ الأَزَماتِ، يُدْرِكُ أَنَّ التَّعامُلَ مع إِيرانَ المُسْتَقْبَلِيَّةِ يَحْتاجُ إلى مَعْرِفَةٍ دَقيقَةٍ بِما يَجْري داخِلَ هَرَمِ السُّلْطَةِ هُناكَ، والاسْتِعْدادِ لِمَرْحَلَةٍ قَدْ تَكُونُ الأَكْثَرَ تَغْييرًا مُنْذُ قِيامِ الجُمْهوريَّةِ الإِسْلامِيَّة.

إِنَّ إِيرانَ اليَوْمَ تَقِفُ على مُفْتَرَقِ طُرُقٍ فِعْليٍّ، والخَليجُ يُراقِبُ المَشْهَدَ بِدِقَّةٍ، لَيْسَ خَوْفًا من التَّحَوُّلاتِ، بَلْ إِدْراكًا لِضَرورَةِ الاسْتِعْدادِ لَها. فاسْتِقْرارُ إِيرانَ أَوِ اهْتِزازُها لَنْ يَبْقَى داخِلَ حُدودِها، بَلْ سَيَعْبُرُ نَحْوَ جِوارِها القَريبِ، والخَليجُ أَوَّلُ هَذَا الجِوارِ وأكْثَرُهُ تَأَثُّرًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن