بصمات

حَربُ الذّاكِرَة! حَتّى لا نَنْسى ما جَرى وَتَظَلَّ الدَّفاتِرُ حاضِرَة!

تَراجَعَ خَبَرُ غَزَّةَ في تَرْتيبِ نَشَراتِ الأَخْبارِ في المِنَصّاتِ العَرَبِيَّةِ الكُبْرَى إلى الخَبَرِ رَقْمِ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ، وَفي المِنَصّاتِ العالَمِيَّةِ إلى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَضاءَلَتْ ساعاتُ البَثِّ المُباشِرِ، وَجَرَى اخْتِصارُ التَّغْطِياتِ المَيْدانِيَّةِ والقِصَصِ المُعَمَّقَة. الأَرْجَحُ أَنَّ هَذَا التَّراجُعَ مَنْطِقيٌّ وَمُبَرَّرٌ، فَمَعَ خَفْضِ التَّصْعيدِ وَتَعْطيلِ آلَةِ العُدْوانِ والحَرْبِ، وَتَراجُعِ القَصْفِ الدَّمَويِّ وَعَدّادِ الشُّهَداءِ الذي كانَ يُغَذّي ماكيناتِ الأَخْبارِ العاجِلَةِ وَتَقاريرَ رَأْسِ السّاعَةِ، يَنْصَرِفُ الِاهْتِمامُ إلى قَضايا أَكْثَرَ إِلْحاحًا وَتَأْثيرًا، كُلٌّ حَسَبَ أَجَنْدَتِهِ وأوْلَوِياتِهِ، لَكِنَّ الخَطَرَ الحَقيقيَّ أَنْ يَنْصَرِفَ العَقْلُ العَرَبيُّ عَنْ وَضْعِ إِجاباتٍ عَنْ كُلِّ روحٍ أُزْهِقَتْ في غَزَّةَ وَكُلِّ مَبْنًى تَدَمَّرَ وَكُلِّ نازِحٍ سَكَنَ العَراء.

حَربُ الذّاكِرَة! 
حَتّى لا نَنْسى ما جَرى وَتَظَلَّ الدَّفاتِرُ حاضِرَة!

الإِجاباتُ التي مِنَ المُهِمِّ أَنْ تَكونَ حاضِرَةً وَمُرَكَّزَةً وَعَصِيَّةً على النِّسْيانِ لا تَتْرُكُ خَبَرًا عَنْ عَوْدَةِ النّازِحينَ مِنْ دونِ خَلْفِيَّةٍ وَسِياقٍ تَقولُ لِلنّاسِ (ماذا وَلِماذا) لِماذا نَزَحَ هَذا مِنَ الأَساسِ وَكَيْفَ تَشَرَّدَ وَهامَ على وَجْهِهِ، وَذَلِكَ الطِّفْلُ الذي يَحْمِلُ أَغْراضَهُ البَسيطَةَ على كَتِفِهِ وَيَمْشي مُتَوَكِّئًا على طَرَفٍ صِناعيٍّ بِدائيٍّ نَحْتاجُ أَنْ نَعْرِفَ في أَيِّ قَصْفٍ فَقَدَ ساقَهُ، وَلِماذَا فَقَدَها بَيْنَما كانَ مُتَحَصِّنًا في مِنْطَقَةٍ صُنِّفَتْ آمِنَةً أَوْ في مَبْنًى صِحِّيٍّ أَوْ تَعْليميٍّ أَوْ أُمَميٍّ المُفْتَرَضُ أَنْ يَكونَ مَحْمِيًّا بِأَحْكامِ القانونِ الدَّوْليِّ، وَكَيْفَ اخْتَفَتْ تِلْكَ العائِلَةُ بِأَكْمَلِها مِنْ سِجِلّاتِ الأَحْياء؟!.

أخطر ما يمكن أن يُصيب شعبًا تعرّض للإبادة أن ينحصر حضوره في لحظات بكاء وحسرة

المَثَلُ الشَّعْبيُّ المِصْريُّ الدّارِجُ يَقولُ "إِنْ كُنْتُمْ نَسيتُمْ ما جَرَى... هاتُوا الدَّفَاتِرَ تِنْقَرَى (تُقْرأ)"... وَ"الإِبادَةُ الجَماعِيَّةُ" التي جَرَتْ في غَزَّةَ طَوالَ عامَيْنِ بِفاعِلٍ أَصْليٍّ مَعْلومٍ وَفَاعِلينَ آخَرينَ ضالِعينَ في التَّمْويلِ والرِّعايَةِ، هِيَ مَجْموعُ قِصَصِ كُلِّ شَهيدٍ وَكُلِّ مُصابٍ وَكُلِّ نازِحٍ وَكُلِّ جِدارٍ مُتَهَدِّمٍ، وَهَذِهِ القِصَصُ هِيَ الدَّفاتِرُ التي لا بُدَّ أَنْ تَبْقَى حاضِرَةً وَتَبْقَى مَعَها غَزَّةُ مُتَمَوْضِعَةً في مَكانِها المُسْتَحَقِّ كَمَسْرَحِ إِبادَةٍ جَماعِيَّةٍ وَلَيْسَ مَيْدانَ أَزْمَةٍ إِنْسانِيَّةٍ شَهِدَ "أَحْداثًا مُؤْسِفَةً" في الماضي القَرِيب.

هَذَا ما يُسَمّونَهُ الذّاكِرَةَ، والفارِقُ بَيْنَ العَقْلِ العَرَبيِّ والعَقْلِ الصُّهْيونيِّ هُوَ في قُدْرَةِ الثّاني على بِناءِ الذّاكِرَةِ وَتَسْليحِها واسْتِخْدامِها في شَنِّ الحُروبِ على العالَمِ لابْتِزازِهِ أَوْ لِقَطْعِ الطَّريقِ عَلَيْهِ لِلنِّسْيان.

يَقْلِبُ العَرَبيُّ الصَّفْحَةَ سَريعًا، يَتَنَقَّلُ في بورْصَةِ الِاهْتِماماتِ، وَمِنْ دونِ أَنْ يَدْرِيَ يَكْتَشِفُ أَنَّ ذاكِرَتَهُ تُسْرَقُ وَسَرْدِيَّتَهُ تَنْزَوي في الهامِشِ، وَحِينَ يَتَجَدَّدُ الصِّراعُ يَجِدُ نَفْسَهُ مُضْطَرًّا أَنْ يُعيدَ شَرْحَ البَديهيّاتِ مِنَ البِدايَةِ، وأَنْ يَقولَ لِلْعالَمِ هَذا (احْتِلالٌ – فَصْلٌ عُنْصُرِيٌّ – جَريمَةٌ ضِدَّ الإِنْسانِيَّةِ – تَطْهيرٌ عِرْقِيّ).

حَدَثَ ذَلِكَ مَعَ الأَيامِ الأولى بَعْدَ السّابِعِ مِنْ أُكْتوبَر/تِشْرينَ الأَوَّلِ، تَحَدَّثْنا لِلْعالَمِ عَنِ الاحْتِلالِ وَكَأَنَّهُمْ يَسْمَعونَ عَنْهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَجَدْنا أَجْيالًا لا تَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ دَيْرِ ياسينَ وَقانا، واصْطَدَمْنا بِأَسْئِلَةٍ عَنِ اللَّحْظَةِ وَسَرْدِيَّةٍ تَبْنِي حُضورَها وَكَأَنَّ تاريخَ هَذِهِ المِنْطَقَةِ بَدأَ في السّابِعِ مِنْ أُكْتوبَر/تِشْرينَ الأَوَّل.

ماكينة السردية الإسرائيلية تعمل على أن تتحوّل جرائم غزة إلى "أحداث مؤسفة" يُعاد تأويلها وتُطمس أدلّتها

أَخْطَرُ ما يُمْكِنُ أَنْ يُصيبَ شَعْبًا تَعَرَّضَ لِلْإِبادَةِ أَنْ تَتَحَوَّلَ مَأْساتُهُ إلى "ذِكْرى"، أَوْ أَنْ تُطْوى صَفْحَتُهُ تَحْتَ زَحْمَةِ أَحْداثِ العالَمِ، أَوْ أَنْ يَنْحَصِرَ حُضورُهُ في لَحَظاتِ بُكاءٍ وَحَسْرَةٍ عِنْدَ حُلولِ المُناسَبَةِ السَّنَوِيَّةِ لِلْجُرْحِ المَفْتوح. وَهَذا تَحْديدًا ما تَعْمَلُ عَلَيْهِ ماكينَةُ السَّرْدِيَّةِ الإِسْرائيلِيَّةِ: أَنْ تَتَحَوَّلَ جَرائِمُ غَزَّةَ، بِكُلِّ ما حَمَلَتْهُ مِنْ فُصولِ تَطْهيرٍ وإِبادَةٍ وَتَجْويعٍ وَمَحْوٍ مَنْهَجيٍّ لِحَياةِ البَشَرِ والحَجَرِ، إلى مُجَرَّدِ "أَحْداثٍ مُؤْسِفَةٍ" وَقَعَتْ في الماضي، يَمُرُّ عَلَيْها الزَّمَنُ، وَيُعادُ تَأْويلُها، وَتُطْمَسُ أَدِلَّتُها، حَتَّى تُصْبِحَ في الوَعْيِ العالَميِّ فَصْلًا رَمادِيًّا قابِلًا لِلنِّسْيانِ أَوِ التَّخْفيفِ أَوِ التَّبْرير.

على مَدارِ عامَيْنِ مِنَ العُدْوانِ على غَزَّةَ، أَثارَتْ صُوَرُ القَتْلِ الجَماعيِّ، والتَّجْويعِ المُمَنْهَجِ، غَضَبًا عالَمِيًّا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَثيلٌ مُنْذُ حَرْبِ فْيِتْنام. تَحَوُّلاتٌ شَعْبِيَّةٌ وَسِياسِيَّةٌ غَيْرُ مَسْبوقَةٍ في الغَرْبِ، وَفي قَلْبِ الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَميرْكيَّةِ تَجَلَّتْ بِوُضوحٍ في إِقْرارِ عُمْدَةِ نيويورْك بِوُقوعِ الإِبادَةِ مِنْ داخِلِ البَيْتِ الأَبْيَضِ وَعلى مَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنَ الرَّئيسِ الأَمِيرْكيِّ، وَأَمامَ هَذا الزَّخْمِ، تَعْمَلُ إِسْرائيلُ على طَمْسِ الأَدِلَّةِ، وَطَمْسِ الذّاكِرَةِ البَصَرِيَّةِ: (تَضْييقٌ على المِنَصّاتِ، حَذْفُ فيدْيواتِ التَّوْثيقِ – كَما تُشيرُ تَقاريرُ مَوْثوقَةٌ بِشَأْنِ حَذْفِ "يوتْيوب" لِعَدَدٍ كَبيرٍ مِنْ مَقاطِعِ الإِبادَة).

وَإِذا اخْتَفَتِ الأَدِلَّةُ البَصَرِيَّةُ، وَغابَ التَّوْثيقُ، يُصْبِحُ المَجالُ مَفْتوحًا أَمامَ السَّرْدِيَّةِ الإِسْرائيلِيَّةِ لِتُعِيدَ تَسْمِيَةَ الأَشْياءِ (العُدْوانُ حَرْبٌ دِفاعِيَّةٌ والمَدَنِيّونَ إِرْهابِيّونَ والجَرائِمُ أَخْطاءٌ فَرْدِيَّةٌ)، لِهَذا يُصْبِحُ اسْتِبْقاءُ الذّاكِرَةِ مُقاوَمَةً مَشْروعَةً وَواجِبَة.

كُلُّ مَشْروعِ تَحَرُّرٍ وَطَنيٍّ في التّاريخِ بُنِيَ على "ذاكِرَةٍ"... الإِبادَةُ الأَرْمَنِيَّةُ ظَلَّتْ حَيَّةً لِأَنَّ الأَرْمَنَ بَنَوْا سَرْدِيَّتَهُمْ بِأَيْديهِمْ: مَتَاحِفُ، أَرْشيفاتٌ، شَهاداتٌ، أَفْلامٌ وَثائِقِيَّةٌ، رِواياتٌ، مَواقِعُ إِلِكْتْرونِيَّة.

الهولوكوسْت لَمْ يُصْبِحْ حَقيقَةً سِياسِيَّةً مُعْتَرَفًا بِها عالَمِيًّا إِلّا بَعْدَ أَنْ امْتَلَكَتِ المُؤَسَّساتُ الصُّهْيونِيَّةُ ماكينَةً ضَخْمَةً لِحِفْظِ الذّاكِرَة.

وَهَذا هُوَ المَشْروعُ العَرَبيُّ الأَهَمُّ... والحَرْبُ العادِلَةُ الأَوْجَبُ، وَخَسارَتُها هِيَ الهَزيمَةُ الأَفْدَحُ مِنْ خَسارَةِ الأَراضي والمَمَرّاتِ الاسْتْراتيجِيَّة.

"ذاكرة غزَة" تحتاج أرشيفًا رقميًا ومنصّة عربيّة مستقلّة لا تخضع ليوتيوب أو فيسبوك أو خوارزميّات الشركات الغربية

هُناكَ تَعاطُفٌ عالَمِيٌّ غَيْرُ مَسْبوقٍ، وَهُناكَ تَحَوُّلٌ أَخْلاقيٌّ وَثَقافيٌّ لَدى جيلِ الشَّبابِ في الغَرْبِ، وَهُناكَ تَراكُمٌ مِنَ الأَدِلَّةِ القانونِيَّةِ والحُقوقِيَّة. هَذَا الزَّخْمُ يَجِبُ أَلّا يَنْطَفِئَ، بَلْ يَجِبُ تَحْويلُهُ إلى بُنْيَةٍ مُسْتَدامَةٍ تَحْفَظُ ذاكِرَةَ الإِبادَةِ كَمَلَفٍّ مَفْتوحٍ، حَيٍّ، وَحَاضِر.

مَشْروعٌ عَرَبيٌّ لِمأْسَسَةِ الذّاكِرَةِ، يَضْمَنُ بَقاءَ الإِبادَةِ في غَزَّةَ نَمُوذَجًا صارِخًا في تَعْريفِ الإِبادَةِ وَدِراسَتِها والتَّعَرُّفِ عَلَيْها.

لَوْلا أَرْشَفَةُ "الهولوكوسْت" ما اقْتَنَعَ شَبابٌ يَهودِيٌّ حُرٌّ بِأَنَّ إِسْرائيلَ تَرْتَكِبُ "هولوكوسْتًا" أَكْثَرَ وَحْشِيَّةً في غَزَّةَ... بِبَساطَةٍ قارَنَ هَؤُلاءِ الشَّبابُ الصُّوَرَ (مُعَسْكَراتُ الِاعْتِقالِ – التَّجْويعُ – القَتْلُ على الهُوِيَّةِ – العِقابُ الجَماعِيُّ) كُلُّ الصُّوَرِ تُشْبِهُ بَعْضَها بَعْضًا لَكِنَّ ضَحِيَّةَ الأَمْسِ كَانَ جَلّادَ اليَوْم.

"ذَاكِرَةُ غَزَّةَ" تَحْتاجُ أَرْشيفًا رَقْمِيًّا مُتَنَوِّعًا، وَمِنَصَّةً عَرَبِيَّةً مُسْتَقِلَّةً، لا تَخْضَعُ لِيوتْيوب أَوْ فيسْبوك أَوْ خَوارِزْمِيّاتِ الشَّرِكاتِ الغَرْبِيَّة. تَجْمَعُ كُلَّ (الفيدْيواتِ والصُّوَرِ والشَّهاداتِ والوَثائِقِ والقَراراتِ والسِّجِلّاتِ والإِحْصاءاتِ والخَرائِطِ) وَتُتاحُ بِلُغاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَتَرْتَبِطُ بِها مَتَاحِفُ دائِمَةٌ وَمُتَنَقِّلَةٌ تُوَثِّقُ الإِبادَةَ، وَقَاعاتٌ تَفَاعُلِيَّةٌ تَسْتَخْدِمُ الواقِعَ الِافْتِراضيَّ، فَعالِيّاتٌ وَمَهْرَجاناتٌ وَأَفْلامٌ وَثائِقِيَّةٌ، كُتُبٌ مَرْجَعِيَّةٌ، مَناهِجُ تَعْليمِيَّةٌ وَمَراكِزُ بَحْثِيَّة.

هَذِهِ لَحْظَةُ مَأْسَسَةِ السَّرْدِيَّةِ الفِلَسْطينِيَّة... لِتَبْقَى الإِبادَةُ في غَزَّةَ مِلَفًّا مَفْتوحًا... لَيْسَ في مَقْدورِ أَحَدٍ أَنْ يَمْحُوَها مِنْ تَاريخِ البَشَرِيَّةِ أَوْ يُعِيدَ تَوْصيفَها بِأَقَلَّ مِنْ بَشاعَتِها... لِتَبْقَى الدَّفاتِرُ دائِمًا تُقْرَأُ، وَلا نَنْسَى أَبَدًا ما جَرَى.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن