اقتصاد ومال

ماذا يعرف العرب عن مغناطيسات المعادن النادرة؟

تُعدّ المغناطيسات المصنوعة من معادن الأرض النادرة كـ"النيوديميوم (Neodymium) والديسبروسيوم (Dysprosium) القلب الخفي للتقنيّات الصناعية الحديثة من سيارات كهربائية وتوربينات رياح إلى أنظمة صواريخ ورادارات متطوّرة... تكمن قوتها الاستثنائية في خصائص إلكترونية فريدة، تجعلها أصغر وأخفّ وأقوى بعشرات المرّات من المغناطيسات التقليدية.

ماذا يعرف العرب عن مغناطيسات المعادن النادرة؟

مع أنّ العناصر الأرضية النادرة ليست نادرةً جيولوجيًا بقدر ما هي مُعقّدة تعدينًا ومعالجةً، فإنّ سلاسل توريدها تتركّز جغرافيًا على نحوٍ يخلق مخاطر استراتيجية واقتصادية معًا.

في عام 2024، قُدِّر الإنتاج العالمي من تلك المغناطيسات بنحو 390 ألف طن مكافئ أكسيد نادر، استأثرت الصين وحدها بنحو 270 ألف طن منه، بينما لم تتجاوز مساهمة الولايات المتحدة 45 ألف طن، وظلّت قطاعات واسعة من الاستهلاك النهائي حول العالم تعتمد على الواردات أو على مغناطيسات مُدمجة داخل سلع مُنتهية الصنع.

المغناطيسات غدت "مكوّنًا استراتيجيًا" في معادلة الردع الصناعي بين واشنطن وبكين

جوهر الإشكال لا يكمن في التعدين وحده، بل في حلقات المُعالجة والتكرير وصناعة المغناطيسات التي تحتكر الصين قيمتها المضافة بغير منازع. فبحسب تقديرات دولية، تُهيمن بكين على نحو 90% من عمليات معالجة العناصر النادرة عالميًا، فيما تعتمد الولايات المتحدة على الصين بما يقارب 70% من وارداتها من مركّبات ومعادن تلك العناصر. هذا التمركز أصبح أشدّ خطرًا مع صدور لوائح صينية جديدة في أغسطس/آب 2025 تُحكِم الرّقابة على عمليات الاستخراج والمعالجة والتجارة، ما أضاف مستوًى جديدًا من عدم اليقين إلى سلاسل التوريد.

ويتقاطع هذا الملف التقني مع أبعاد الحرب التجارية والتكنولوجية بين واشنطن وبكين. ففي مراجعة الرسوم المعروفة بـ"Section 301" خلال سبتمبر/أيلول 2024، أقرّت الإدارة الأميركية تعديلاتٍ تهدف إلى تعزيز الأمن الاقتصادي وتقليل الاعتماد على سلاسل الإمداد الصينية، وتناولت النقاشات الرسمية حينها رفع الرسوم على المغناطيسات الدائمة تحديدًا لنُدرة البدائل خارج الصين. الرسالة في ذلك بالغة الوضوح: فالمغناطيسات غدَت "مكوّنًا استراتيجيًا" في معادلة الردع الصناعي بين القوتَيْن العظميَيْن.

وفي سياق التصعيد نفسه، خرج الرئيس الأميركي في أغسطس/آب 2025 بتهديدٍ مباشرٍ، مؤكّدًا أنّ لدى واشنطن "أوراقًا لا تُصدّق" يمكنها "تدمير الاقتصاد الصيني" إذا أقدمت بكين على تقييد صادراتها من مغناطيسات العناصر النادرة، ولوّح بفرض رسومٍ بنسبة 200% على الواردات الصينية عند الضرورة. المفارقة أنّ هذا التصعيد جاء بينما جرى تمديد هدنة تجارية موقتة بين البلدَيْن حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وهو ما يكشف طبيعة الحرب التجارية كأداة ضغطٍ تفاوضيّة يمتزج فيها الاقتصاد بالسياسة في لعبة شدّ وجذب مستمرة.

يمتلك  العالم العربي فرصتين مُتكاملتين يمكن أن تجعلاه فاعلًا رئيسيًا في سوق المعادن النادرة

أمّا أوروبا فاعتمدت "قانون المواد الخامّ الحرجة"، الذي يضع بحلول عام 2030 مستهدفات مُلزمة قوامها: 10% استخراج محلي، 40% معالجة، 25% إعادة تدوير، على ألّا يتجاوز الاعتماد على بلدٍ واحدٍ 65% لأي مادة استراتيجية. وعلى الرَّغم من الطابع الأوروبي للقانون، فإنّ منطقه يصلح للاستفادة منه عربيًا إذا ما اعتمدت الدول العربية سياسات: تنويع مصادر التوريد، بناء قدرات معالجة محلّية، وتوسيع التدوير الصناعي.

يقف العالم العربي اليوم أمام مفترق طرق حاسم فيما يتعلّق بموارد المعادن النادرة، إذ يمتلك فرصتَيْن مُتكاملتَيْن يمكن أن تجعلاه فاعلًا رئيسيًا في هذه السوق الاستراتيجية. الأولى موردية جيولوجية مباشرة، حيث تُظهر الدراسات أنّ الرمال السوداء المصرية (على سبيل المثال) غنيّة بالـ"مونازيت" (Monazite) وغيره من المعادن الثقيلة، ممّا يجعلها مصدرًا واعدًا للعناصر النادرة، إذا ما جرى استثمارها تكنولوجيًا وفق معايير بيئيّة صارمة. والثانية لوجستية وتصنيعية، بحكم الموقع الاستثنائي للإقليم بين الأسواق الأوروبية والآسيوية، بما يؤهّله ليكون مركزًا لسلاسل الإمداد العالمية إذا ما أحسن استغلال موقعه في ظلّ التوتّرات الجيوسياسية الراهنة.

وتشير بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية إلى طفرةٍ لافتةٍ في المشروعات الأفريقية التي يمكن أن تُغيّر خريطة العرض خلال سنوات قليلة. ففي أنغولا يبرز مشروع "لونغونجو"، وفي مالاوي مشروع "سونجوي هِل"، وفي تنزانيا مشروع "نجوالا"، إضافة إلى "ماكوتو" في أوغندا، ومشروع فوسفات "فالابوروا" في جنوب أفريقيا المقرّر أن يبدأ إنتاجه من مخلّفات الفوسفات عام 2026. هذه المشروعات، التي تتراوح ما بين مراحل التمويل والتشغيل التجريبي، تحمل مؤشرات قوية على أنّ القارة الأفريقية في طريقها لأن تصبح مصدرًا رئيسيًا لأكاسيد العناصر النادرة، ما يعزّز بدوره من أهمية الشراكات العربية - الأفريقية في هذا المجال الاستراتيجي.

الاستنتاج العملي للعرب هو الانتقال من نهج "الاستيراد عند الحاجة" إلى نهج سلسلة القيمة، وذلك من خلال الإجراءات التالية:

1 - إبرام اتفاقات توريد طويلة الأجل مع المشروعات الناشئة في أفريقيا، مع تبنّي آليات تمويل مشترك تضمن ربط النفاذ إلى الموارد بمعايير الحوْكمة البيئية والاجتماعية.

2 - توجيه الاستثمارات نحو مشروعات المعالجة الإقليمية (الفصل والتكرير) داخل بلدان عربية مختارة تمتلك موانئ عميقة وتتمتّع بميزةٍ تنافسيةٍ في الطاقة، بما يقلّل من مخاطر التركّز الجغرافي ويُتيح فرص عمل صناعية عالية القيمة.

3 - تقديم حوافز لتوطين صناعة المغناطيسات بالقرب من التجمّعات الصناعية الخاصّة بالسيارات الكهربائية والأجهزة المنزلية، إذ إنّ جزءًا معتبرًا من القيمة المضافة عالميًا يتحقّق في مرحلة تصنيع المغناطيس أكثر ممّا يتحقّق في مرحلة التعدين.

المغناطيسات هي مفاتيح لاقتصاد الطاقة والتكنولوجيا والدفاع

4 - تفعيل برامج "التدوير الحضري"، حيث يمكن تلبية نسبة غير قليلة من احتياجات العناصر النادرة من خلال الخردة الصناعية ومخلّفات التعدين. وقد أظهرت دراسات حديثة أنّ استرداد كسور مئوية من بعض العناصر من بقايا المناجم، كفيل بسدّ فجوة واسعة في الإمدادات. وفي السياق العربي، يُمكن دمج برامج التدوير مع خطط إدارة المخلّفات الإلكترونية ومكوّنات المحرّكات.

5 - مواءمة السياسات الوطنية مع التحوّل العالمي الجاري، إذ سيظلّ الطلب على العناصر النادرة مدفوعًا بمسارات التحوّل نحو الطاقة النظيفة.

ختامًا، إذا كانت بعض الدول العربية تستزرع أراضي أفريقيا لتأمين الغذاء، فمن المنطقي أن تستثمر أيضًا في موارد معادنها الحرجة - بشراكاتٍ عادلةٍ ومسؤولة - لتأمين سلاسل القيمة الصناعية في العقد المقبل. فالمغناطيسات ليست مجرّد قطع معدنيّة صغيرة؛ بل هي مفاتيح لاقتصاد الطاقة والتكنولوجيا والدفاع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن