لديّ شوق لزيارة دمشق، ولكن بسبب الوضع السياسي القائم طويلًا، لم يكن بالإمكان الذهاب إليها في السابق بشكلٍ مريح. ذهبت إليها في أكثر من مناسبة لأسباب موضوعية، إلّا أنّ زيارة دمشق في الوقت الحالي هي فرض عين، ولها نكهة خاصة، لأنّ التخلّص من النظام السابق، كان معجزةً، وأهمية الحديث مع قادة النظام الجديد حول الدروس المُستفادة من نصف القرن الماضي لها أهمية قصوى.
لقد تخلّص النظام الجديد ممّا سمّاه المرحوم سعد الدين إبراهيم "الجملوكية" بمعنى توريث الحكم الجمهوري إلى الأبناء، وهي ظاهرة سامّة، كادت أن تنتشر في منطقتنا العربية، في مصر واليمن وليبيا والعراق وغيرها، لولا أحداث "الربيع العربي"، وكان ظاهرها شيئًا مقيتًا، كلّفت البشر، وخصوصًا السوريون، أكلافًا إنسانيةً باهظةً، لذلك فإنّ الحديث مع النظام الجديد وبصراحة كان فرصةً قد فاتت عليّ.
زرت دمشق في السابق، في أوقاتٍ مختلفةٍ، زرتها إبّان الاحتلال العراقي للكويت، وكانت في ذلك الوقت مناصرةً للحقّ الكويتي، وربّما من أجل معارضة النظام العراقي لا أكثر، ولكن ذلك الموقف ثُمِّنَ كويتيًا بشكلٍ إيجابيّ وقمت في عام 1990 بتقديم محاضرةٍ في مكتبة الأسد، حول التأثير الكارثي على العلاقات العربية نتيجة الغزو. بعد التحرير، قامت مجموعة من الإعلاميين الكويتيين بزيارة شكر، برئاسة المرحوم وزير الإعلام الكويتي بدر اليعقوب، واجتمعنا مع الرئيس حافظ الأسد اجتماعًا مطولًا. ممّا قاله في ذلك الوقت، وكان مفاجِئًا للجميع، إنّه نصح صدّام حسين بألّا يتهوّر ويستخدم القوة تجاه الكويت، إنّما يستخدم الديبلوماسية، كما فعلنا نحن في لبنان! كان ذلك التصريح صادمًا، بعد أن خرجنا من لقاء الرئيس، تحدّث معي وقتها السيد جبران كورية الذي كان يحب أن يسمّى أبو جابر رحمه الله، وقال لي سعيدًا إنّ الأميركيين أرادوا أن "يقوّصوا" على صدام حسين، ومن خلفه الأسد، ولكنّ المعلّم (في إشارةٍ إلى حافظ الأسد) استخدم ذكاءه، وسار في المعركة خلف الأميركيين فلم يستطيعوا أن "يقوّصوا" عليه.
إذا فُقدت الحريات فذلك يُؤسّس إلى تراجع الدولة وتضخّم المؤسّسات الأمنية وانتشار الفساد
تلك بعض الإشارات التي تُبيّن هيكلية التفكير في النظام الحزبي، وأذكر في وسط الثمانينيّات، أنّه زارنا شخص متقدّم في وزارة الثقافة السورية، وفي الحديث الخاص، قال لو تمّت انتخابات نزيهة في سوريا اليوم، لما حصلنا نحن في الحزب على أكثر من 10% من أصوات السوريين، وكان صادقًا في ذلك القول، ولكنه قول للخاصة، يفكّر فيه ولا يُقال علنًا!.
في عام 2000، كان لي زيارة أخرى مع مجموعة من النشطاء الكويتيين في إطار المؤاخاة بين "محافظة الفروانية" في الكويت، وكان محافظها صديقًا عزيزًا، و"محافظة ريف دمشق". وقتها، دُعيت للحديث في التلفزيون السوري من قبل وزير الإعلام، وكنت أعرفه في السابق، لأنّه كان الأمين العام المساعد للشؤون السياسية في الجامعة العربية، وتمّ اللقاء المسجل. وكان حديثًا متعدّد المداخل، منه حديثي عن أهمية الحرّية، وذكرت مثالًا على ذلك وهو مثال تاريخي معروف، عن مقال كاتب فرنسي من أصول إيطالية هو إميل زولا (Émile Zola)، بعنوان "إنّي أتهم" (J'accuse…!). وكان ذلك المقال دفاعًا عن اتهام شخص يهودي هو ألفرد دريفوس (Alfred Dreyfus) في الجيش الفرنسي بالخيانة العظمى، وهي قصة معروفة، أسّست لفكرة الانتصار للحرية.
في المساء، أذيع ذلك اللقاء محذوفًا منه كل الحديث عن إميل زولا ودريفوس، كان بشار الأسد لتوّه قد أصبح رئيسًا للجمهورية، في مسرحيةٍ شبه دراميةٍ، عندما قام البرلمان السوري بتغيير سنّ رئيس الجمهورية وتخفيضه من أجل أن يصبح الرئيس بشار الأسد رئيسا!
في هكذا أجواء التي تُفتقد فيها الحريات، لا تصبح الدولة دولةً، يمكن أن تكون ميليشيات، ويمكن أيضًا أن ترفع شعاراتٍ زاعقةً، ولكن في الغالب لا يصدّقها حتى مطلقوها.
بعد التغيير الأخير، في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، ظهر رئيس الوزراء الأخير للنظام السوري، وقال بوضوح "إنّني كرئيس وزراء، لا حول لي ولا قوة، تأتي التعليمات من القصر ونقوم بتنفيذها"!.
هناك الكثير من الموارد الإنسانية والثقافية والاقتصادية في سوريا يمكن أن تُستثمر من خلال الحرية لبناء سوريا الجديدة
إذا فُقدت الحريات فذلك يُؤسّس إلى تراجع الدولة، وتضخّم المؤسّسات الأمنية، وانتشار الفساد، فيبلع الناس ألسنتهم خوفًا من الاضطهاد والسجن والقتل، وقد تكون المسألة مفيدة في الأمد القصير، ولكنها في النهاية تذهب مصحوبةً باللعنات لذلك النظام البائد.
من هنا فاتني أنّ الحديث في هذا الموضوع أمام الرئيس الشرع، وربّما كتابته، قد تصل فكرته إلى أحد القريبين منه، للتأكيد على أهمية الحريات والمشاركة الواسعة للناس، فلم تعد الشعوب قاصرةً، ولم يعد ممكنًا حكم الشعوب بالحديد والنار. العملية الانتقالية صعبة جدًّا، وتحتاج إلى عقول، وليست سوريا فارغة من تلك العقول، بل هي تعجّ بالعقول الفكرية والسياسية والثقافية، التي لم تتورّط بدم السوريين، وهناك الكثير من الموارد الإنسانية والثقافية والاقتصادية في سوريا التي يمكن أن تُستثمر من خلال الحرية لبناء سوريا الجديدة، وما زلت متفائلًا.
(خاص "عروبة 22")