يَسودُ الاعْتِقادُ في أَنْظِمَةِ التَّعْليمِ وَالتَّكْوينِ البارِزَةِ؛ أَنَّ المُؤَسَّساتِ وَالأَنْظِمَةَ التَّرْبَوِيَّةَ هِيَ الفَضاءُ الأَكْثَرُ تَواجُدًا وَقُدْرَةً على تَعْليمِ النّاسِ وَتَنْمِيَةِ عُقولِهِمْ بِالمَعْرِفَةِ وَالعُلومِ؛ أَوْ بِالإِنْسانِيّاتِ وَالفُنونِ، وَمَنْ يَبْتَغي الانْكِبابَ على التَّعْليمِ فَما عَلَيْهِ إِلّا أَنْ يَتَّجِهَ إلى هَذِهِ المُؤَسَّساتِ: مُسَجِّلًا وَمُلْتَحِقًا وَجالِسًا بَيْنَ أَفْرادٍ مُتَعَلِّمينَ، وَمُعَلِّمٌ يَتَوَلّى هَذِهِ المُهِمَّةَ، وَمَخْبَرًا أَوْ حَقْلًا لإِجْراءِ التَّجارِب.
وَإِذْ تَقَرَّرَ هَذا، فَإِنَّ المَلْمَحَ الجَوْهَرِيَّ لِهَذا النِّظامِ؛ هُوَ ذَلِكَ التَّرابُطُ العُضْوِيُّ بَيْنَ التَّعْليمِ وَالمُؤَسَّساتِ؛ وَرُسوخُ هَذا التَّرَابُطِ بِخاصَّةٍ في دائِرَةِ المَعارِفِ التِّكْنولوجِيَّةِ، التي بِسَبَبِ زِحامِ بَرامِجِها وَطولِ وَقْتِها؛ لَمْ يَجِدِ المُنْتَسِبونَ إِلَيْها الفَراغَ الذي يَرْوي عَطَشَهُمُ المَعْرِفي نَحْوَ عُلومِ الإِنْسانِ، فَبَقِيَتْ أَحْوالُهُمُ العَقْلِيَّةُ وَالنَّفْسِيَّةُ مُمَزَّقَةً بَيْنَ تَكْوينٍ عِلميٍّ خَالِصٍ، وَرَغْبَةٍ روحِيَّةٍ في المَعْرِفَةِ الإِنْسانِيَّةِ؛ التي يُسَمّيها فيلهِلم دِلتاي (Wilhelm Dilthey 1911-1833): بِعُلومِ الرّوحِ، التي غَرَضُها الفَهْمُ، بَيْنَما التَّفْسيرُ هُوَ قَصْدُ العُلومِ الطَّبيعِيَّة.
الارتفاع بالسلوك الإنساني من حضيض الغريزة والطبيعة إلى أفق العقل والقيمة
وَنَظَرًا لِهَذا، فَإِنَّنا نَرْغَبُ في صَرْفِ القَوْلِ؛ نَحْوَ إِمْكانِيَّةِ المَعْرِفَةِ بِهَذِهِ العُلومِ التِّقْنِيَّةِ؛ عَنْ طَريقِ التَّعَلُّمِ الذّاتيِّ وَالاجْتِهادِ الخاصِّ، لانَّ ميزَتَها الجَوْهَرِيَّةَ، أَنَّها لَيْسَتْ عَلاقَةً لِلإِنْسانِ بِالأَشْياءِ، بَل هِيَ عَلاقَةٌ لِلإِنْسانِ بِالإِنْسانِ، وَهُنا، يَكْمُنُ السِّرُّ في قابِلِيَّتِها لِلتَّعَلُّمِ الذّاتيِّ وَإِمْكانِيَّةِ الدُّرْبَةِ على اسْتيعابِ مَفاهيمِها وَأَدَواتِها، فالمَوْضوعُ فيها لَيْسَ بَعيدًا بُعْدَ المَكانِ وَالمَسافَةِ، بَل هُوَ قَريبٌ قُرْبَ المَعْنى وَالحَقيقَةِ؛ يَسْكُنُ في الوَعْيِ وَالمَعيشِ وَالعِبارَةِ؛ بِما يُؤَهِّلُهُ، كَيْما يَكونَ هُوَ المَخْزونَ الفِطْرِيَّ نَحْوَ التَّعَلُّمِ الذّاتيِّ، وَنَحْوَ تَسْديدِ السُّلوكِ الإِنْسانِيِّ وَالارْتِفاعِ بِهِ مِنْ حَضيضِ الغَريزَةِ وَالطَّبيعَةِ إلى أُفُقِ العَقْلِ وَالقيمَةِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ وَصْفٍ لِلحَقائِقِ أَوْ تَعْيينٍ لِلمَفاهيمِ أَوْ تَفْسيرٍ بِالنَّظَرِيّاتِ؛ وَبِالتّالِي، فَإِنَّ نُقْطَةَ الانْطِلاقِ نَحْوَ عُلومِ الإِنْسانِ؛ تَكْمُنُ هُنا، أَيْ في فِطْرِيَّةِ السُّؤالِ وَفِطْرِيَّةِ الرَّغْبَةِ في مَعْرِفَةِ الذّاتِ طَلَبًا لإِصْلاحِها.
وَتَأْكيدًا على فِكْرَةِ المُبادَأَةِ من الذّاتِ وَلَيْسَ من المَوْضوعِ، يَقولُ "فريدْريك نيتْشَه" (1844-1900 Friedrich Nietzsche) نَحْنُ مَعْشَرَ الباحِثينَ عَنِ المَعْرِفَةِ لا نَعْرِفُ أَنْفُسَنا، إِنَّنا نَجْهَلُ أَنْفُسَنا وَثَمَّةَ سَبَبٌ وَجيهٌ لِذَلِكَ فَنَحْنُ لَمْ نَبْحَثْ عَنْ ذَواتِنا – فَكَيْفَ لَنا أَنْ نَكْتَشِفَ أَنْفُسَنا ذاتَ يَوْمٍ"، ثُمَّ يَنْزِلُ بِالسُّؤالِ إلى الأَعْماقِ قائِلًا: "مَنْ تُرانا نَكونُ في نِهايَةِ التَّحْلِيلِ"[1]؛ فَهَذا مِنْ صِنْفِ الأَسْئِلَةِ البَعيدَةِ وَالقَبْلِيَّةِ السّابِقَةِ على العُلومِ؛ إِنَّها تُقَدِّمُ المِفْتاحَ الرّوحِيَّ نَحْوَ المَعْرِفَةِ بِالإِنْسان.
لِنَقُل إِذَنْ، إِنَّ فِطْرِيَّةَ السّؤالِ عَنِ الكَيْنونَةِ الإِنْسانِيَّةِ وَالرَّغْبَةِ في الفَهْمِ وَالحاجَةَ إلى تَبْريرِ أَفْكارِ الإِنْسانِ التي يُؤْمِنُ بِها، هِيَ الأَرْضِيَّةُ التي تَكونُ نُقْطَةَ الانْطِلاقِ في مَشْروعِ التَّعَلُّمِ الذّاتيِّ، وَأَمّا مِنْ حَيْثُ الخُطُواتُ التي يَسيرُ عَلَيْها السّالِكُ طُرُق التَّعَلُّمِ الذّاتيِّ فَيُمْكِنُ الإِشارَةُ إِلَيْها في ضَوْءِ ما يَلي:
1 - البِدْءُ بِمَداخِلِ العُلومِ: يَحْتاجُ المُقْبِلُ على تَعَلُّمِ المَعارِفِ حَوْلَ الإِنْسانِ وَيَكونُ مُنْتَمِيًا إلى التَّخَصُّصِ التِّقْنيِّ، إلى تَطْبيقِ هَذِهِ القاعِدَةِ: "مَنْ أَرادَ بُلوغَ النِّهاياتِ فَعَلَيْهِ بِتَصْحِيحِ البِداياتِ"، وَالبِدايَةُ هُنا، هِيَ مَداخِلُ العُلومِ؛ لأَنَّها تَشْرَحُ مَفاهيمَ ذَلِكَ العِلْمِ وَإِشْكالاتِهِ وَأَهَمَّ أَعْلامِهِ، لِذا، نُلاحِظُ في المَراكِزِ البَحْثِيَّةِ، على الرَّغْمِ مِنْ أَنَّها مُتَخَصِّصَةٌ، إِلّا أَنَّها تُرَكِّزُ على هَذِهِ المَداخِلِ مِثْلَ: المَدْخَلِ إلى الفَلْسَفَةِ العَامَّةِ، وَالمَدْخَلِ إلى المَنْطِقِ وَالمَدْخَلِ إلى عِلمِ الاجْتِماعِ وَغَيْرِها.
2 - الوَصْلُ بَيْنَ التَّخَصُّصِ العِلميِّ وَبَيْنَ عُلومِ الإِنْسانِ: وَهُنا، لَفْتَةٌ في غايَةِ الأَهَمِّيَّةِ، فالذي يَبْدَأُ في التَّعَلُّمِ الذّاتيِّ لِلعُلومِ الإِنْسانِيَّةِ، لا يَتَصَوَّرُ أَنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ العُلومِ يَحْكُمُها مَنْطِقُ الانْفِصالِ، بَلْ هِيَ مُتَعالِقَةٌ وَمُتَرابِطَةٌ، فالذي يَكونُ مُخْتَصًّا في الرِّياضِيّاتِ مَثَلًا؛ يَجِدُ في المَفاهيمِ الرِّياضِيَّةِ اسْتِعاراتٍ مُلائِمَةً لِتَعَلُّمِهِ الذّاتيِّ، وَفي هَذا يَقولُ ابْنُ خَلدون: "مَنْ أَخَذَ نَفْسَهُ بِتَعْليمِ الحِسابِ أَوَّلَ أَمْرِهِ، أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الصِّدْقُ؛ لِما في الحِسابِ مِنْ صِحَّةِ المَباني وَمُناقَشَةِ النَّفْسِ، فَيَصيرُ ذَلِكَ خُلُقًا"[2]. وَهُنا تَعالُقٌ ظاهِرٌ بَيْنَ الرِّياضِيّاتِ وَبَيْنَ عِلْمِ الأَخْلاق. وَيَقولُ أَيْضًا: "وَاعْلَمْ أَنَّ الهَنْدَسَةَ تُفيدُ صاحِبَها إِضاءَةً في عَقْلِهِ، وَاسْتِقامَةً في فِكْرِهِ؛ لأَنَّ بَراهينَها كُلَّها، بَيِّنَةُ الانْتِظامِ، جَلِيَّةُ التَّرْتيبِ... فَيُبْعِدُ الفِكْرَ بِمُمارَسَتِها عَنِ الخَطَأِ، وَيُنْشِئُ لِصاحِبِها عَقْلًا على ذاكَ المَهْيَعِ" أَيِ الطَّريق. وَهُنا تَعالُقٌ جَلِيٌّ بَيْنَ عِلْمِ المَنْطِقِ وَالهَنْدَسَةِ، أَوَلَيْسَ المَنْطِقُ هُوَ آلَةُ العُلومِ كُلِّها؟!.
التعَلُّم الذاتيّ طريقٌ نحو الوعي بدور العلوم في تغيير الإنسان
3 - الحِوارُ مِنْ أَجْلِ الوَعْيِ بِالتَّأْويلِ: إِنَّ الدُّرْبَةَ على الحِوارِ، وَالاطِّلاعَ على طُرُقِهِ وَكَيْفيّاتِهِ، وَسيلَةٌ فَعّالَةٌ مِنْ أَجْلِ الوَعْيِ بِنِسْبِيَّةِ الآراءِ وَالمَواقِفِ، وَبِالتّالِي، يُصْبِحُ التّأْويلُ وَالفَهْمُ في السِّياقِ مِنْ أَدَواتِ التَّعَلُّمِ الذّاتيِّ، بِخِلافِ العَقْلِ التَّخَصُّصيِّ التِّقْنيِّ الذي لا يَعي المُسْتَوى التَّأْويلِيَّ في المَعْرِفَةِ وَالأَفْكارِ، فَإِذا كانَ مَبْنى التَّخَصُّصاتِ التِّقْنِيَّةِ؛ هُوَ العِلْمُ مِنْ غَيْرِ تَأْويلٍ، فَإِنَّ مَبْنى العُلومِ الإِنْسانِيَّةِ هُوَ التَّأْويلُ في تَكامُلٍ مَعَ العِلْمِ التِّقْنيِّ؛ وَأَكْثَرُ حاجَتِنا هِيَ إلى العَقْلِ التَّأْويليِّ، بِوَصْفِهِ الطَّريقَ الإِيجابِيَّ نَحْوَ التَّفاهُمِ وَالوِفاقِ وَالتَّصاوُب.
لِنَقُلْ إِذَنْ، بِأَنَّ التَّعَلُّمَ الذّاتِيَّ وَفْقَ ما أَشَرْنا، يَبْني أُفُقَ التَّرابُطِ بَيْنَ المَعارِفِ المُمَزَّقَةِ، وَيُعيدُ الأَهَمِّيَّةَ لِوَحْدَةِ المَعْرِفَةِ، بِمَعْزِلٍ عَنِ الاحْتِقارِ التِّقْنيِّ لِعُلومِ الإِنْسانِ. إِنَّ التَّعَلُّمَ الذّاتِيَّ أَيْضًا، يُحَقِّقُ الاقْتِدارَ الحِجاجِيَّ على التَّبْريرِ وَالاسْتِدْلالِ؛ وَكَذا الوَعْيَ بِالطّابَعِ التَّأْويليِّ وَالجَدَليِّ لِلآراءِ وَالأَفْعالِ؛ إِنَّهُ أَيْضًا طَريقٌ نَحْوَ الوَعْيِ بِدَوْرِ العُلومِ في تَغْييرِ الإِنْسانِ، من الدّاخِلِ؛ وَهَذا الأَمْرُ؛ أَكْثَرُ قيمَةً بِخاصَّةٍ في سِياقِ البَحْثِ عَنْ أُفُقٍ حَضارِيٍّ جَديدٍ لِلواقِعِ العَرَبيِّ؛ يَنْقُلُهُ من الوَعْيِ بِقيمَةِ التِّقْنِيّاتِ المُكَدَّسَةِ إلى إِدْراكِ وَتَفْعيلِ الإِنْسانِيّاتِ المُبْدِعَةِ، لأَنَّها آخِرُ ما بَقِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ لأَجْلِ خَلْقِ ثَقافَةٍ إِبْداعِيَّةٍ وَناجِحَة.
(خاص "عروبة 22")
[1] نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، المقدمة.
[2] أنظر، النجار عبد المجيد، إصلاح الفكر بميزان القرآن.


