تقدير موقف

حَرَكَةُ "ناطوري كارْتا" اليَهودِيَّة: "حُرّاسُ المَدينَة" والخُروجُ عَنِ القَطيع!

"ناطوري كارْتا" (Neturei Karta) هي جَماعَةٌ يَهودِيَّةٌ أُصولِيَّةٌ تأسَّسَتْ في القُدْسِ في أَوائِلِ القَرْنِ العِشْرينَ، وَتَحْديدًا عامَ 1938. وَهي جُزْءٌ مِنَ الحَرَكاتِ اليَهودِيَّةِ التي تُعارِضُ بِشِدَّةٍ الفِكْرَ الصُّهْيونِيّ. واسْمُ "ناطوري كارْتا" هُوَ اسْمٌ بِاللُّغَةِ الآرامِيَّةِ وَيَعْني "حُرّاسُ المَدينَةِ"، مِمّا يَعْكِسُ تَمَسُّكَهُمْ بِالقِيَمِ الدّينِيَّةِ اليَهودِيَّةِ الأَصيلَةِ، خَاصَّةً في ما يَتَعَلَّقُ بِالهَيْكَلِ المُقَدَّسِ في القُدْس!.

حَرَكَةُ

تُعْتَبَرُ حَرَكَةُ "ناطوري كارْتا" جُزْءًا من تَيّارِ "الحَريديم" (اليَهودِ المُتَشَدِّدينَ)، وَتَتَرَكَّزُ أَنْشِطَتُهُمْ في عَدَدٍ مِنَ الأَحْياءِ اليَهودِيَّةِ الأُصولِيَّةِ خاصَّةً في القُدْسِ، مِثْلَ حَيِّ "مِئَة شَعاريمَ" وَ"جيلو" وَسَطَ القُدْس.

يرفضون الاعتراف بدولة إسرائيل وقادة الصهيونية في نظرهم أكثر شرًا من هتلر والنازية

وَتَرى الحَرَكَةُ أَنَّ اليَهودَ يَجِبُ أَنْ يَعيشوا حَياةً دينِيَّةً وَفْقًا لِلشَّريعَةِ اليَهودِيَّةِ (التَّوْراةِ)، من دونِ أَنْ يَسْعَوْا لِتأسيسِ دَوْلَةٍ خاصَّةٍ بِهِمْ قَبْلَ ظُهورِ "المَسِيا" (المَسيحِ في التَّقاليدِ اليَهودِيَّة). وَأَقْسَمَ أَعْضاءُ الحَرَكَةِ على عَدَمِ إِقامَةِ أَيِّ بَلَدٍ مُوَحَّدٍ لَهُم، سَواءٌ في الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ أَوْ في أَيِّ مَكانٍ آخَرَ، وَلا بُدَّ لِليَهودِ أَنْ يَعيشوا خَاضِعينَ لِدُوَلِ المَنْفَى التي يَكونونَ فيها.

وَيَرْفُضونَ بِشِدَّةٍ الحَرَكَةَ الصُّهْيونِيَّةَ لِأَنَّها تَتَناقَضُ مَعَ هَذِهِ الفِكْرَة. وَمن وُجْهَةِ نَظَرِهِمْ، فَإِنَّ مُحاوَلَةَ إِقامَةِ دَوْلَةٍ يَهودِيَّةٍ قَبْلَ قُدومِ المَسِيا لَيْسَتْ فَقَطْ غَيْرَ قانونِيَّةٍ دينِيًّا، وَلَكِنَّها أَيْضًا تَتَسَبَّبُ في مُعاناةٍ لِلشَّعْبِ اليَهودِيّ. وَيَرَوْنَ أَنَّ الصِّراعَ الإِسْرائيلِيَّ - الفِلَسْطينِيَّ هُوَ نَتيجَةٌ لِخَطَأٍ دينيٍّ تاريخيٍّ ارْتَكَبَهُ الصَّهايِنَةُ وَلا بُدَّ من إِعادَةِ الحَقِّ إلى أَصْحابِه. وَلِذَلِكَ، في الكَثيرِ مِنَ الأَحْيانِ، عَبَّرُوا عَنْ دَعْمِهِمْ لِلقَضِيَّةِ الفِلَسْطينِيَّةِ، مُعْتَبِرينَ أَنَّ الفِلَسْطينيّينَ هُمُ الضَّحِيَّةُ الحَقيقِيَّةُ لِلصُّهْيونِيَّة.

مَوْقِفُهُم مِن "إسرائيل"

بِخِلافِ العَديدِ مِنَ الجَماعاتِ اليَهودِيَّةِ التي تَدْعَمُ إِسْرائيلَ، "ناطوري كارْتا" يَرْفُضونَ الِاعْتِرافَ بِدَوْلَةِ إِسْرائيل. وَفْقًا لِرُؤْيَتِهِمْ، رَفَضَتِ الجَماعَةُ اعْتِبارَ الصُّهْيونِيَّةِ الوَكيلَ المَزْعومَ لِمَصالِحِ اليَهودِ حَوْلَ العالَمِ، فَقادَةُ الصُّهْيونِيَّةِ في نَظَرِهِمْ أَكْثَرُ شَرًّا من هِتْلِر والنّازِيَّةِ نَفْسِها. وَأَدانَتِ الحَرَكَةُ القَبولَ الدَّوْلِيَّ بِإِنْشاءِ دَوْلَةِ إِسْرائيلَ عامَ 1948، وَيَرَوْنَ أَنَّ الدَّوْلَةَ اليَهودِيَّةَ الحالِيَّةَ هي نَتاجٌ لِلصُّهْيونِيَّةِ وَلَيْسَتْ نَتيجَةَ إِرادَةٍ إِلَهِيَّة. هَذا المَوْقِفُ يَجْعَلُهُمْ يَظْهَرونَ بِشَكْلٍ مُخْتَلِفٍ عَنْ باقي اليَهودِ الَّذِينَ يَعْتَبِرونَ الدَّوْلَةَ الإِسْرائيلِيَّةَ كِيانًا شَرْعِيّا. هَؤُلاءِ يَعْتَقِدونَ أَنَّ اليَهودَ يَجِبُ أَنْ يَعيشوا في الشَّتاتِ حَتَّى يَتِمَّ وُصولُ المَسِيا (المَسيحِ المُخَلِّص).

التوَجُّهاتُ السِّياسِيَّة

تُشارِكُ الحَرَكَةُ في مُظاهَراتٍ واحْتِجاجاتٍ ضِدَّ الحُكومَةِ الإِسْرائيلِيَّةِ، وأَحْيانًا يُشارِكونَ في تَظاهُراتٍ إلى جانِبِ الفِلَسْطينيِّين. وَفي مُناسَباتٍ مُعَيَّنَةٍ، يُمْكِنُ أَنْ يَلتَقوا مَعَ شَخْصِيّاتٍ فِلَسْطينِيَّةٍ أَوْ مَعَ زُعَماءِ دُوَلٍ مُعارِضَةٍ لِإِسْرائيلَ، وَنَظَّموا العَديدَ مِنَ الِاحْتِجاجاتِ التي تُعَبِّرُ عَنِ المُعارَضَةِ لِاحْتِلالِ الأَراضِي الفِلَسْطينِيَّةِ وانْتِهاكِ حُقوقِ الفِلَسْطينيِّين.

عبّروا عن دعمهم لحقوق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم

وأَعْضاءُ الحَرَكَةِ اعْتادوا على حَرْقِ الأَعْلامِ الإِسْرائيلِيَّةِ في يَوْمِ اسْتِقْلالِ "إِسْرائيل"، وَلَقَدْ ظَهَرَتْ صُوَرٌ لِبَعْضِ قادَتِهِمْ في لِقاءاتٍ مَعَ شَخْصِيّاتٍ فِلَسْطينِيَّةٍ بَارِزَةٍ مِثْلَ ياسِر عَرَفات، حَيْثُ عَبَّروا عَنْ دَعْمِهِمْ لِحُقوقِ الفِلَسْطينيّينَ في تَقْريرِ مَصيرِهِمْ، لَكِنَّهُمْ في الوَقْتِ نَفْسِهِ كانوا يُؤَكِّدونَ أَنَّ مَوْقِفَهُمْ هَذا هُوَ ضِدَّ الصُّهْيونِيَّةِ، وَلَيْسَ ضِدَّ اليَهود. ما جَعَلَهُمْ في مَثارِ جَدَلٍ داخِلَ المُجْتَمَعِ اليَهوديِّ وَيَتَعَرَّضونَ لِلمُلاحَقاتِ المُسْتَمِرَّةِ على يَدِ السُّلُطاتِ الإِسْرائيلِيَّة.

اغْتِيالُ ياسِر عَرَفات

يُؤَكِّدُ أَعْضاءُ الحَرَكَةِ أَنَّ إِسْرائيلَ هي التي اغْتالَتْ ياسِر عَرَفات، الَّذِي مَثَّلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ رَمْزًا مَرْكَزِيًّا في كِفاحِهِمْ ضِدَّ المَشْروعِ الصُّهْيونِيّ. وَقَدْ بَلَغَ هَذا التَّقارُبُ حَدَّ أَنَّ الحاخامَ موشيه هيرْش (Moshe Hirsch) أَحَدَ أَبْرَزِ قادَةِ الحَرَكَةِ، تَوَلّى مَنْصِبَ وَزيرِ الشّؤونِ اليَهودِيَّةِ في حُكومَةِ ياسِر عَرَفات عامَ 1995.

وَكانَتِ الحَرَكَةُ تَرَى في الرَّئيسِ الرّاحِلِ قائِدًا شَرْعِيًّا لِجَميعِ سُكّانِ أَرْضِ فِلَسْطينَ، بِمَنْ فيهِمُ اليَهودُ، بِاعْتِبارِ أَنَّ فِلَسْطينَ وَطَنٌ مُشْتَرَكٌ لا يَصُحُّ اخْتِزالُهُ في دَوْلَةٍ صُّهْيونِيَّةٍ تَسْتَأْثِرُ بِالتَّمْثيلِ وَتُقْصي الآخَرين.

العَلاقَةُ مَعَ الفِلَسْطِينِيِّين

في مَواقِفِها السِّياسِيَّةِ، تَبَنَّتْ جَماعَةُ "ناطوري كارْتا" رُؤْيَةً تَقومُ على التَّعايُشِ السِّلميِّ بَيْنَ اليَهودِ والعَرَبِ، مُؤَكِّدَةً أَنَّ جَوْهَرَ الصِّراعِ يَكْمُنُ في إِقامَةِ دَوْلَةٍ يَهودِيَّةٍ على أَرْضِ فِلَسْطينَ وَما تَرَتَّبَ على ذَلِكَ مِنَ إِقْصاءٍ وَصِدام. وانْطِلاقًا من هَذا المَبْدَأِ، عَقَدَتِ الحَرَكَةُ لِقاءاتٍ عِدَّة مَعَ شَخْصِيّاتٍ فِلَسْطينِيَّةٍ مُعارِضَةٍ لِلِاحْتِلالِ، في مُحاوَلَةٍ لِإِبْرازِ أَنَّ رَفْضَ الصُّهْيونِيَّةِ لا يَسْتَلزِمُ العَداءَ لِليَهودِ، بَل يَفْتَحُ البابَ أَمامَ شَراكَةٍ إِنْسانِيَّةٍ وَسِياسِيَّةٍ أَوْسَع.

وَعلى الرَّغْمِ من أَنَّ "ناطوري كارْتا" لَيْسَتْ طائِفَةً كَبيرَةً مُقارَنَةً بِالتَّياراتِ اليَهودِيَّةِ الأُخْرى، فَإِنَّ مَواقِفَها أَثارَتْ نِقاشاتٍ حادَّةً حَوْلَ الصُّهْيونِيَّةِ وَطَبيعَةِ الدَّوْلَةِ الإِسْرائيلِيَّةِ وَحُدودِ العَلاقَةِ بَيْنَ اليَهودِ والفِلَسْطينيّين. وَقَدْ أَسْهَمَ حُضورُها، على الرَّغْمِ من مَحْدودِيَّتِهِ العَدَدِيَّةِ، في طَرْحِ أَسْئِلَةٍ مُحْرِجَةٍ داخِلَ المُجْتَمَعِ الإِسْرائيليِّ حَوْلَ شَرْعِيَّةِ المَشْروعِ الصُّهْيونيِّ وَبَدائِلِهِ المُمْكِنَة.

ظَهْرُ البَعير

يُمْكِنُ تَوْظيفُ صَوْتِ الحاخاماتِ والناشِطينَ اليَهودِ المُنْتَمينَ إلى حَرَكَةِ "ناطوري كارْتا"، إلى جانِبِ الحَرَكاتِ المُوازِيَةِ لَها، وَفي مُقَدِّمَتِها "المَجْموعَةُ الدّيموقْراطِيَّةُ الشَّرْقِيَّةُ" (هَكِيشْتْ هَمِدِمُوقْراطِيتْ هَمِزْراحِيتْ) التي نَشَأَتْ كَرَدِّ فِعْلٍ واعٍ وَمُمَنْهَجٍ على سِياساتِ التَّمْييزِ المُسْتَمِرَّةِ ضِدَّ اليَهودِ العَرَب.

التفَكُّك الداخلي الإسرائيلي إِذا أُحْسِنَ توظيفه يتحوّل إلى "القَشَّة" التي قد تُظهر هشاشة السرديّة الصهيونية

وَقَدِ اسْتَطاعَتْ هَذِهِ المَجْموعَةُ أَنْ تُحَقِّقَ إِنْجازاتٍ مُهِمَّةً في كَشْفِ التَّراتُبِيَّةِ الإِثْنِيَّةِ داخِلَ المُجْتَمَعِ الإِسْرائيليّ. كَما تَبْرُزُ "حَرَكَةُ القَوْسِ الشَّرْقيِّ الدِّيموقْراطيِّ" المُناهِضَةُ لِلعُنْصُرِيَّةِ الإِسْرائيلِيَّةِ، وَ"حَرَكَةُ اليَهودِ ضِدَّ الصُّهْيونِيَّةِ" التي تَرْفُضُ شَكْلَ الدَّوْلَةِ العِبْرِيَّةِ الحالِيَّةِ وَتُعِدُّها كِيانًا عُنْصُرِيًّا أُقيمَ على يَدِ العِصاباتِ الصُّهْيونِيَّةِ وَلا يَمُتُّ إلى اليَهودِيَّةِ بِصِلَة.

إِنَّ اسْتِحْضارَ هَذِهِ التَّياراتِ يَمْنَحُ الخِطابَ النَّقْدِيَّ قُوَّةً اسْتِثْنائِيَّةً، لِأَنَّها أَصْواتٌ نابِعَةٌ من داخِلِ المُجْتَمَعِ الإِسْرائيلِيِّ نَفْسِهِ، تَرْصُدُ واقِعَهُ المَعيشَ وَتَكْشِفُ تَشَقُّقاتِهِ البُنْيَوِيَّة. وَمن شَأْنِ هَذا التَّفَكُّكِ الدّاخِليِّ، إِذا أُحْسِنَ تَوْظيفُهُ بَحْثِيًّا وإِعْلامِيًّا، أَنْ يَتَحَوَّلَ إلى "القَشَّة" التي قَدْ تُظْهِرُ هَشاشَةَ السَّرْدِيَّةِ الصُّهْيونِيَّةِ وَتُعَرِّيَ مُمارَساتِها أَمامَ العالَم.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن