تقدير موقف

البَلْطَجِيّ"...!

قَبْلَ أَيّامٍ مِنَ الاحْتِفالِ، وفي إِهانَةٍ مَقْصودَةٍ للآخَرينَ على اخْتِلافِهِم؛ أَفارِقَة، وأوروبيّين، وغَيْرِهِم، لمْ يُرْسِل الرَّئيسُ الأميرْكيُّ دونالد ترامب أيَّ مَنْدوبٍ، أيًّا كانتْ دَرَجتُهُ الدّيبْلوماسِيَّة، أو حتّى وَظيفَتُهُ "الإدارِيَّةُ" في السَّفارَةِ الأَميرْكِيَّةِ ليَحْضُرَ قمَّةَ مَجْموعَةِ العِشْرينَ الأَخيرَةَ التي عُقِدَتْ للمَرَّةِ الأولى في دَوْلَةٍ أفْريقِيَّة؛ جَنوب أفريقيا في هذهِ الحالَة، والتي لَمْ يَفُتِ الرَّئيسُ الصّاخِبُ لأكبرِ دولةٍ في العالمِ أنْ يُعَرِّضَ بِها في تَصْريحاتِهِ المُنْفَلِتَة. ثمَّ كانَ أنِ انْتَهى الاجْتِماعُ مِنْ دونِ الإِجْراءِ الدّيبْلوماسيِّ المَأْلوفِ الذي يَقومُ فيهِ الرَّئيسُ الحالِيُّ للقِمَّةِ (الجَنوبُ الأفْريقِيُّ) بِتَسليمِ رِئاسَتِها، إلى رَئيسِ القِمَّةِ المُقْبِلة (2026)، والتي مِنَ المُفْتَرَضِ أنْ تَكونَ الولاياتُ المتحدةُ ذاتُها، إذ لمْ يكُنْ مِنَ اللّائِقِ، أو مِنَ المَنْطِقيِّ، تَسْليمُ الرِّئاسَةِ إلى "المَقْعَدِ الشاغِر".

البَلْطَجِيّ

لمْ يكُنْ هذا السُّلوكُ، غَيْرُ المَسْبوقِ ديبْلوماسِيًّا، سِوى واحِدٍ مِنَ السُّلوكِيَّاتِ "الصّادِمَةِ" للرّئيسِ الذي يَتَرَبَّعُ على "عَرْشِ" الدَّوْلَةِ الأَكْبَرِ في العالَم، والذي لا يَأْبَهُ هوَ وأَرْكانُ إِدارَتِهِ لَيْسَ فقطْ للأَعْرافِ الدّيبْلوماسِيَّةِ المَرْعِيَّة، بلْ وحَتّى لِما تَقْتَضيهِ الاعْتِباراتُ القانونِيَّةُ الدَّوْلِيَّة. فلمْ يكُنْ حِبْرُ البَيانِ الخِتاميِّ لقِمَّةِ زُعَماءِ الدُّوَلِ الأَهَمِّ اقْتِصاديًّا في العالَمِ، والذي نَجَحَ تْرامْب في إِرْباكِها، قد جَفَّ بَعْد، حَتّى فوجِئَ المُتابِعونَ بِحَذْفِ اسْمِ جَنوبِ أفْريقْيا (وهيَ أَحَدُ الأعْضاءِ المُؤسِّسينَ للمَجْموعَة) مِنْ قائِمَةِ الدُّوَلِ التي سَتَحْضُرُ القِمَّةَ المُقْبِلَة، والتي سَتُعْقَدُ في مَلْعَبٍ للغولْفِ خاصٍّ بِتْرامْب نَفْسِهِ في ميامي - فلوريدا. وهِيَ المَرَّةُ الأولى التي يُسْتَبْعَدُ فيها عُضْوٌ مِنَ التَّكَتُّلِ الذي يُمَثِّلُ أَكْبَرَ اقْتِصاداتِ العالَم، مِنَ الاجْتِماعِ السَّنَوِيِّ للمَجْموعَة.

لَيْسَ ذَلِكَ فَقَطْ، بَلْ عَمَدَ الرَّئيسُ الأميرْكِيُّ، الذي وَضَعَ مُساعِدوهُ صورَتَهُ مُلَوِّحًا بِقَبْضَةِ يَدِهِ على المَوْقِعِ الرَّسْميِّ للمَجْموعَةِ معَ مَقْطَعٍ مِنْ أُغْنِيَةٍ لِفرانك سيناترا، إلى شَطْبِ جَدْوَلِ الأَعْمالِ الذي أَقَرَّتْهُ قِمَّةُ جوهانِسْبِرغَ الأَخيرَة، ليَضَعَ بَدَلًا مِنْهُ جَدْوَلًا يَعْكِسُ رُؤْيَتَهُ المُفْرِطَةَ في رَأْسِمالِيَّتِها.

زمن ترامب هو بحق "زمن الغرائب"

لا جَديدَ، كما لا مُفاجَأةَ في سُلوكِ السَّيِّدِ تْرامْب، ولا في لُغَتِه، دَعْكَ مِنْ أنَّهُ اسْتَخْدَمَ لَفْظَةً نابِيَةً في رَدِّهِ على سُؤالٍ للصِّحافِيّينَ عنِ الرَّئيسِ الفِنِزْويلّيِّ نيكولاس مادورو، بلْ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ في مَنْحِهِ مُهْلَةَ 72 ساعَةً لِمُغادَرَتِهِ "بَلَدَهُ" معَ أُسْرَتِه. بَلْ وَقَرَّرَ (بِمَنْشورٍ على السوشيال ميديا) إِغْلاقَ المَجالِ الجَوّيِّ لِفنزويلا. لا أعرفُ إنْ كانَ ما زالَ وارِدًا التَّذْكيرُ (زَمَنَ ترامب) بِأَنَّ فنزويلا، كَغَيْرِها، "دَوْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ذاتُ سِيادَة"، وبِأَنَّ المادَّةَ الثّانِيَةَ مِنْ ميثاقِ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ تَمْنَعُ أيَّ دَوْلَةٍ، أوْ حتّى الأُمَمَ المُتّحِدَةَ ذاتَها، مِنَ التَّدَخُّلِ في الشّؤونِ التي تُعَدُّ مِنْ صَميمِ السُّلْطانِ الدّاخِليِّ لأيِّ دَوْلَةٍ، بما في ذَلِكَ "اخْتِياراتُها السِّياسِيَّةُ والنِّظامُ السِّياسِيُّ وقَراراتُها السِّيادِيَّة".

التَّذْكيرُ بِميثاقِ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ، أو بِمِثْلِ تِلْكَ المَبادِئِ المُسْتَقِرَّةِ في القانونِ الدَّوْليِّ قد يَكونُ غَريبًا زَمَنَ ترامْب، الذي هُوَ بِحَقٍّ "زَمَنُ الغَرائِب"، فَالرَّجُلُ المولَعُ، إعْلامِيًّا، بِالتَّهْديداتِ والإِنْذارات، كانَ قدْ أَمْهَلَ الرَّئيسَ الأوكْرانيَّ فولوديمير زيلينسكي مُهْلَةً تَنْتَهي قَبْلَ عيدِ الشُّكْرِ لِيُوافِقَ على خُطَّتِهِ التي تَقْضي بِتَنازُلِ أوكْرانْيا لَيْسَ فقطْ عنْ أَجْزاءٍ كَبيرَةٍ مِنْ أَراضيها، بلْ وعنْ سِيادَتِها سَواءً فيما يَتَعَلَّقُ بِحَجْمِ قُوّاتِها المُسَلَّحَة، أو بِحَقِّها في الانْضِمامِ لأَيِّ مُنَظَّمَةٍ أو مُؤَسَّسَةٍ دَوْلِيَّة. هوَ كانَ "أَمْهَلَ" أيْضًا المُقاوَمَةَ الفِلَسْطينِيَّةَ غَيْرَ مَرَّةٍ لِكَيْ تَسْتَجيبَ لِخُطَطِهِ "الرَّأْسِمالِيَّةِ/الاسْتِعْمارِيَّةِ" غَيْرِ مُحَدَّدَةِ المَعالِمِ، وإلَّا سَيَفْتَحُ عَلَيْها "بابَ الجَحيم"!.

ترامْب؛ الذي لا يَنْفَكُّ يَتَباهى بِتَرْسانَتِهِ المُسَلَّحَةِ، كانَ مِنَ الطَّبيعيِّ ألَّا يُعْجِبَهُ أنْ يَكونَ الوَزيرُ الذي يُديرُ تَرْسانَتَهُ تلكَ وَزيرًا للدِّفاعِ (Secretary of Defense)، فكانَ أنْ قرَّرَ تَغْييرَ المُسَمَّى (كما "الوَظيفَة") لِيُصْبِحَ وَزيرًا للحَرْبِ (Secretary of War)، وَهُوَ تَغْييرٌ قد يَبْدو شَكْلِيًّا، وإنْ كانَ في حَقيقَتِهِ وفي سِياقِ ما نَراهُ مِنْ جُموحٍ وتَهْديداتٍ رَعْناء، لا يَخْلو مِنْ دَلالَة.

"الفُتُوَّة" يستغل قوَّته في حماية الضعفاء وفرض العدالة أما "البلطجي" فيستثمر القوّة في البطش وفرض الإتاوات

ترامْب؛ الرَّئيسُ الذي يَتَباهى بِقُوَّتِه، والذي يَعْتَقِدُ ويَقولُ بِوضوحٍ إِنَّ القُوَّةَ (لا العَدْلَ) هيَ الكَفيلَةُ بِحِفْظِ الأَمْنِ والاسْتِقْرارِ، كانَ مَنْطِقِيًّا ألَّا يَعْتَرِفَ بِقَراراتِ أوِ اخْتِصاصاتِ "مَحْكَمَةِ العَدْلِ الدَّوْلِيَّةِ" (ICJ)، إذا اقْتَرَبَتْ مِنْ سِياساتِ الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَميرْكِيَّة. كَما كانَ طِبيعِيًّا أنْ يَتَجاوَزَ مَوْقِفُهُ مِنْ "المَحْكَمَةِ الجِنائِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ" (ICC) رَفْضَ وِلايَتِها في هذهِ القَضِيَّةِ أوْ تلك، إلى قَراراتٍ وأَوامِرَ تَنْفيذِيَّةٍ تَقْضي بِفَرْضِ عُقوباتٍ على قُضاةٍ في المَحْكَمَةِ بِسَبَبِ تَحْقيقاتِها في اتِّهاماتٍ مُوَجَّهَةٍ إلى مَسْؤولينَ إسْرائيليّين.

بالمُناسَبَةِ، ولِتَكْتَمِلَ الصّورَةُ: دَعْكَ مِنْ مُحاولاتٍ لمْ تَتَوَقَّفْ لِقَتْلِ "الأونروا" (التَّجْسيدِ القانونيِّ لِقَضِيَّةِ اللّاجِئينَ الفِلَسْطينيِّينَ)، فَبِقراراتٍ مِنْ ترامب في وِلايَتَيْهِ، انْسَحَبَتِ الوِلاياتُ المُتَّحْدَةُ مِنْ "مجلسِ حقوقِ الإنسانِ التابعِ للأُمَمِ المُتَّحِدَةِ (UNHRC) لِمَوْقِفِهِ مِنْ إِسْرائيلَ"، كما انْسَحَبَتْ مِنَ اليونسكو (للسَّببِ ذاتِه).

في رِواياتِهِ يُفَرِّقُ نَجيب مَحْفوظ؛ الرِّوائيُّ العَرَبيُّ الأَشْهَرُ، بينَ "الفُتُوَّة"؛ الذي يَسْتَغِلُّ قُوَّتَهُ، ومَهابَتَهُ في حِمايَةِ الضُّعَفاءِ وفَرْضِ العَدالَة، وبينَ "البَلْطَجيِّ"؛ الذي يَسْتَثْمِرُ القُوَّةَ ذاتَها في البَطْشِ وفَرْضِ الإتاواتِ، وتَخْويفِ هَذا وَذاك. لا أَعْرِفُ لِماذا تَذَكَّرْتُ هذهِ الشُخوصَ، عندما رَأَيْتُ الرَّئيسَ الأميرْكيَّ يُقايِضُ زيلينسكي على المَعادِنِ الثَّمينَةِ التي تَتَمَيَّزُ بِها بِلادُهُ مُقابِلَ ما قدْ يُوَفِّرُهُ لهُ مِنْ حِمايَةٍ، وهوَ الأَمْرُ ذاتُهُ الذي تَكَرَّرَ، وإِنْ اخْتَلَفَتِ التَّفاصيلُ، معَ أَكْثَرَ مِنْ قُطْرٍ أفْريقيٍّ تَحْتَ لافِتَةِ "السَّلامِ" الخادِع.

فاقت صفاقة الرئيس في ولايته الثانية ما كان في الأولى

يَتَمَيَّزُ بَلْطَجِيَّةُ نجيب محفوظ أيضًا بِبَذاءَةِ اللِّسان، وهيَ صِفَةٌ لا أَحْسَبُ أَنَّها بِبَعيدَةٍ عنِ السَّيِّدِ الرَّئيسِ، ولا حتّى عنْ طاقَمِ مُساعِديهِ الذي لَمْ تَتَرَدَّدْ إحْداهُنَّ في الرَّدِّ على سُؤالٍ لِصِحافِيٍّ بِدَعْوَتِهِ إلى أنْ يَسْأَلَ والِدَتَه.

لا غَرابَةَ إذَنْ فيما بِتْنَا نَسْمَعُ في البَيْتِ الأَبْيَضِ، أوْ في غُرْفتِهِ البَيْضاوِيَّةِ، فالرَّئيسُ، لا غَيْرُهُ، لمْ يَتَرَدَّدْ في أنْ يَصِفَ عُضْوَةَ الكونْغْرِس إِلْهان عُمَرَ بِـ"كَوْمَةِ قُمامَةٍ"، مُرْدِفًا بأنَّ "على الصّومالِيّينَ هنا أنْ يَعودوا إلى بِلادِهِمْ"، وهوَ الخِطابُ العُنْصُرِيُّ ذاتُهُ الذي تَبَدّى في حَديثِهِ الأَخيرِ عنْ مُواطِني "العالَمِ الثّالِث".

ربَّما فاقَتْ صَفاقَةُ الرّئيسِ في وِلايَتِِهِ الثّانِيةَ، ما كانَ في وِلايَتِهِ الأولى، والذي رُبَّما نَسيناهُ، ولَكِنَّ الأَمْرَ لا يَعْدو أنْ يَكونَ اخْتِلافًا في النِّسْبَةِ والدَّرَجَة، فلِمَنْ نَسِيَ، كانَتِ الـ"نيويورك تايمز" قد أَحْصَتْ في قائِمَةٍ مُطَوَّلَةٍ ما قد يَفوقُ ما وَرَدَ في كِتابِ ابنِ قُتَيْبَةَ الشهيرِ "المُخَصَّصِ في الألْفاظِ النّابيةِ والسّباب".

وبَعْدُ،

فرُبَّما كانَ التَّصْريحُ الأَكْثَرُ تِكرارًا للرَّئيسِ صاحِبِ الصّورَةِ "الجِنائِيَّةِ" الشَّهيرَة، والذي أَنْجَتْهُ السِّياسَةُ قَبْلَ عامٍ مِنَ المُحاكَمَة، والذي يَحْرِصُ دائمًا على التَّلْويحِ بِقَبْضَتِه، هوَ ما سَمِعْناهُ مِنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ: "أميركا هيَ أقْوى دَوْلَةٍ في العالَم، ولدَيْنا جَيْشٌ هوَ الأقْوى في العالَم، وعلى الجَميعِ أنْ يَعْرِفوا ذَلِك".

المُثيرُ أنَّ التَّعْبيرَ ذاتَهُ، وإنِ اخْتَلَفَتِ التَّفاصيلُ أوِ المُصْطَلَحاتُ "الجُغْرافِيَّة"، سَمِعْناهُ من بنيامين نتنياهو؛ الذي قد تُنْجيهِ السِّياسَةُ أَيْضًا مِنَ المُحاكَمَة. قالَهُ كَعادَتِهِ أَمامَ الكاميراتِ قَبْلَ يَوْمَيْنِ فَقَطْ: "إسرائيلُ هيَ أقْوى دَوْلَةٍ في الشَّرْقِ الأوْسَطِ، وعلى كُلِّ جيرانِنا أنْ يُدْرِكوا ذَلِك".

تُرى هلْ أدْرَكَ كُلُّ الجيرانِ ذَلِك؟ أوْ بِالأَحْرى: هلْ أَدْرَكَ كُلُّ "الجيرانِ" مَغْزى ذَلِكَ التَّصْريحِ ودَلالتَهُ؟!.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن