لم يكن الغرض الأصلي من إنشاء الجامعات في التَّاريخ خاصّةً في سياق الثقافة العربية الإسلامية، أن تكون مؤسَّسات استشارية أو مراكز تخطيطيّة لأجل المصلحة التِّجارية أو اختزالها في رسم الخِيارات السياسية؛ مثلما هو حال الجامعة في هذا الزّمان العوْلمي؛ بل إنَّ إنشاء المدارس والجامعات ككِيانات مستقلّة قانونيًا وماليًا، كان الغرض منه، التبتُّل من أجل المعرفة وتفريغ جزء من مكوّنات الأمة والمجتمع، لأجل العلم والاستجابة لحاجات المجتمع الروحية والفكرية والحضارية. فالمدارس والجوامع لم تكن أمكنةً لتعليم العلوم الدِّينية فقط؛ كما كان الأمر في تاريخ العصور الوسطى الغربية؛ بل إنَّ المعارف الدِّينية والعقلية وجهان لحقيقة واحدة، فالأمر الإلهي بتقديس القراءة والإيمان بوَحدة المعرفة وتكامل العلوم والحثِّ على الاجتهاد، كانت هي القيم الباعثة على حماسة القلوب نحو المعرفة والرَّغبة في الاستزادة منها.
دور الجامعة حاسم في إرادة الدخول إلى التاريخ وكسر نطاقات التخلُّف العقلي والسّلوكي
ويُعدّ "جامع الزيتونة" (بُني سنة 79هـ/698م) الذي استحال فيما بعد إلى جامعة؛ من المؤسَّسات التَّعليمية الكبرى، التي بكّرت الثقافة الإسلامية بتأسيسها، وتلازم مع هذا أيضًا، بناء المكتبات لأجل تخزين المعرفة مثل "مكتبة بيت الحكمة"، وكذا "المراصد الفلكية" و"المشافي الطبية". وبات التخصُّص في العلوم وبذل الرُّوح لأجل الظَّفر بها، من الواجبات الشَّرعية والعقلية سواءً بسواءٍ، وكان العنوان هو "بالبحث تستخرج دفائن العلوم، ولولا الخطأ لما أشرق نور الصَّواب، ومَن لم يكن معه عقل مرصوص؛ لم ينتفع بالحديث المقصوص".[1]
إنَّنا نبتغي الإشارة هنا؛ إلى القيمة المحورية للجامعة في الاجتماع الإنساني؛ ودورها الحاسم في إرادة الدُّخول إلى التَّاريخ وكسر نطاقات التخلُّف العقلي والسُّلوكي، وعليه، فإنَّنا في واقعنا المعاصر، في أمسّ الحاجة إلى استعادة المضمون الحيوي للجامعة؛ من أجل بثّ حماسة المعرفة في القلب من جديد، والتَّأكيد على أساسيّة الجامعة مردّه إلى الأسباب التالية:
- الجامعة باعتبارها حديقةََ للمعرفة وللفضيلة؛ هي التي تقتدر على الوعي بمشكلات الأمّة والمجتمع، وتقتدر على رسم الحلول لها، مثلما كانت هاته السّمة في تاريخ الحداثة الغربية أو في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية؛ فالقيادات الحقيقيّة، هي قيادات العلم والاجتهاد؛ والمفكِّرون والعلماء هم دائمًا في طليعة التَّوجيه والتَّغيير.
- الجامعة هي قُمرة قيادة الاجتماع الإنساني، وهي الحاوية على النَّماذج الإنسانية الرَّفيعة من حيث القراءة والأخلاق؛ ومتى أصبح ينظر إلى الجامعة باعتبارها مكانًا للاسترزاق أو المهنية فقط، فإنَّ الثمرة ستكون فاسدة المذاق والقيمة. لأجل ذلك، فإنَّ أساتذة الجامعة هم المطالبون بإعداد القيادات في مختلف شُعب المعرفة، والإكثار منهم، وتلقينهم حماسة القلب إلى المعرفة، فالجامعة هي مصنع الرجال والقادة الحقيقيين.
قبل المهنية هناك امتلاك الرؤية والمعرفة والاجتهاد والبحث
- في ظلّ واقعنا المُعاش، نلاحظ أنَّ جامعاتنا التي تقلّد مخطَّطات أوروبا، قد باتت تنحو بالجامعة نحو التَّدريب على إتقان مهنة أو التَّكوين المهني؛ حقيقةً هذا أمر حيويّ وهامّ، كي لا تُترك المهن لذوي الجهالة والغباوة؛ لكنّ المُتصفّح لحركة الجامعات في الغرب، يجد أنّها قبل هذا، كانت محاريب للتَّبتُّل والبحث والاكتشاف ووضوح المشروع الرُّوحي لأمّة أوروبا؛ بينما نحن لم نَخْطُ هذه الخطوة؛ ونريد البدء ممّا انتهى إليه هؤلاء. إنَّها الحيل العقلية اللّاشعورية، التي تُنتج الوهم لدى أصحابها: إنّهم حقَّقوا مُرادهم بهذا التَّقليد والاتّباع، فقبل المهنية؛ هناك امتلاك الرُّؤية والمعرفة والاجتهاد والبَحث. وهناك رسالة الجامعة ومحورية دورها الحضاري ضمن مشروع الأمّة، فالذي يختزل الجامعة في التَّكوين المهني، مثله مثل من يمتلك قطعًا مجزّأةً لآلةٍ ضخمةٍ، من غير تحصيل القدرة على إدماجها أو تركيبها ضمن العمل الكلّي في المصنع. وبالتالي، فإنَّ أساتذة الجامعة هم المكلّفون بتلقين هذه الرؤية كي يتشرّبها الطلبة والباحثون.
للجامعة ثلاث وظائف هي التعليم ونشر البحوث العلمية وخدمة المجتمع
وإذ تبيَّنت مبرّرات الحاجة إلى أن نعطي للجامعة المنزلة الرفيعة والشَّأن الجليل، فإنَّنا نصرف القول، إلى العلل التي تحدّ من صورة الجامعة باعتبارها مكانًا لامتلاك حماسة القلب إلى المعرفة أو بثّ هذه الحماسة في قلوب الطلبة، إننا نحصي منها:
أولًا. علّة الاستغراب: إنَّ الواجب في الاتجاه نحو الغرب من أجل التَّعليم هو امتلاك العلم ومعرفة أسسه ومناهجه، والوعي بأنّ ثمّة العلم، وثمة علم العلم، أي الرؤية الكلّية التي تؤطّر هذا العلم. والمشكلة أنّ دول العالم العربي على الرَّغم من أنها ظلَّت ترسل البعثات العلمية إلى الخارج؛ إلّا أنّ أغلبها لا يعود أو يعود وهو ذو تكوين ضعيف، لا يتشرّب من الغرب إلّا جوانبه السلبية، بينما كانت اليابان وروسيا ترسلان البعثات التي اكتسبت العلم، بل وتفوّقت فيه على الغرب ونشرته في أوطانها.
ثانيًا. علّة الثنائيّة: وتعني انشطار المعارف بين علوم قديمة وأخرى حديثة، وإدامة الصِّدام فيما بينها، فالقديمة تراثية عقيمة، والحديثة جديدة ومُنتجة، وهذه ثنائية تعكس صراع رجال الدين مع رجال العلم في أوروبا وليست من صميم الثقافة العربية الإسلامية. والجامعات في فضائنا الثقافي ما زالت تُعيد تكرار هذه الأفكار على الرَّغم من أن منبتها هو سياقات أخرى.
إذكاء حماسة القلب إلى المعرفة مشروط بوجود هيئة تدريس تقوم بمهمة البناء الروحي والعلمي للطلبة والباحثين
ثالثًا. علّة الانفصال: إذا كانت للجامعة ثلاث وظائف فهي: التَّعليم ونشر البحوث العلمية وخدمة المجتمع، فإنّ الحاصل أمام مُرائينا هو: تعليم منفصل عن إطارنا الحضاري؛ وبحوث منفصلة عن الإبداع والتَّجديد، وانفصال عن تأطير المجتمع الذي استسلم هو الآخر إلى التّربية المنزلية (القهر والعسف) والبيئة والذَّوق الشَّخصي.
لنقل إذن، إنّنا محتاجون إلى إذكاء حماسة القلب إلى المعرفة، وتحقيق هذا، مشروط بوجود جامعة تعي دورها الرّسالي في التَّاريخ، وهيئة تدريس تقوم بمهمة البناء الروحي والعلمي للطلبة والباحثين.
[1] العامري، أبو الحسن، الإعلام بمناقب الإسلام، ص 185.
(خاص "عروبة 22")