انطلق الإبداع، تاريخيًا، بفعل "الذّات الخلّاقة"؛ تلك الذّات التي تتمرّد على السائد، وتُستنفر ضدّ كلّ ما يحول دون تطوّرها، ومن ثمّ تبحث عن كلّ ما يُمَكِنها من تجديد العالم، وتحشد قدراتها وخبراتها من نجاحاتٍ وإخفاقاتٍ، وتناقضاتها المختلفة، لتجاوز ما هو سائد، جامد وراكد، وعبور الإعاقات من أجل إعادة تأليف الواقع والمجتمع والعالم تأليفًا جديدًا يُشكّل للإنسان/للإنسانيّة سياقًا مُغايرًا أكثر تقدما.
بات نظام الذكاء الاصطناعي التوليدي يُقدّم نفسه "كمبدع" قادر على أن يُشارك الإنسان في العمليات الإبداعية
في هذا الإطار، أبدع الإنسان أدبيًّا في: الشعر والقصة والرواية والمسرح والنقد الأدبي؛ وفنّيًا في: الفنون التشكيلية والسينما والعمارة والتصميم البصري؛ وموسيقيًا في: التأليف الموسيقي بأنواعه والغناء؛ وفكريًا في: العلوم الإنسانية الفلسفية والاجتماعية والسياسية والنفسية والثقافية والإعلامية والترجمة؛ وعلميًا وتقنيًا في: الفيزياء والكيمياء والهندسة والطبّ الحيوي والهندسة الوراثية والطاقة المُتجدّدة وعلوم الفضاء. وعلى مدى العصور، كان هناك دومًا مَن يحرص على اكتشاف واستثمار ما لديه من مواهب وملكات وأفكار تُفعّل الخيالات المتنوّعة: الخلّاقة والخصبة، ما يُطلق العنان للإبداع ويجعله عمليةً تاريخيةً مُستدامة.
بَيْدَ أنّه، ومع انطلاقة الزمن الرقمي، بات نظام الذكاء الاصطناعي التوليدي يُقدّم نفسه "كمبدعٍ" قادرٍ على أن يُشارك الإنسان في العمليات الإبداعية المُختلفة: النصّية والتجسيدية المرئية والبصرية والتفاعلية في كلّ من مجالَيْ العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية على السواء. ففي مقابل الإبداع الإنساني (Human Creativity)؛ الذي ينتج من محصلة الموهبة والخيال والخبرة والقدرة الإنسانية الذاتية، أصبح هناك إبداع "مؤتمت" يُنتجه نظام الذكاء الاصطناعي في تجلّيه التوليدي (Automation AI - generated Creativity)؛ من خلال الخوارزميات ــ مجموعة الخطوات البرمجيّة الرقمية المنطقية المُتسلسلة التي تعمل على ما يتوفّر لديها من بياناتٍ ومعلوماتٍ وصورٍ، ومن ثمّ تقديم الحلول للمشكلات والإجابة عن التساؤلات نصّيًا وصوريًا ــ التي تحلّ محلّ المُخيّلة البشرية في إنتاج الأفكار والنصوص والصور. بلغةٍ أخرى، أصبح هناك إبداع إنساني وآخر آلي، وكلاهما يتشاركان اليوم في إنتاج العملية الإبداعية بتنويعاتها المختلفة.
يتوقّع الباحثون أن يولد نوع جديد من الإبداع الهجين
والسؤال الذي بات يطرح نفسه بإلحاحٍ هو: هل تستمرّ هذه الشراكة الراهنة؟ أم لا؟
في هذا المقام، تنوّعت المحاولات للإجابة عن هذا السؤال الوجودي والمحوري الذي يتّصل، في جوهره، بمستقبل الإنسان/المواطن في الزمن الرقمي. اجتهد أصحابها في رسم ملامح السيناريوات المُحتملة لهذه الشراكة الراهنة وما يمكن أن تؤول إليه. وفيما يلي نُجمل أبرز تلك السيناريوات كما يلي:
السيناريو الأول هو "التعاون"؛ حيث تستمرّ حالة "الشراكة" بين الإبداع الإنساني والإبداع "المؤتمت". ومن ثمّ، سوف يُعَدُّ نظام الذكاء الاصطناعي أداة تعزيزٍ ودعمٍ للإبداع البشري بحيث يستحيل الاستغناء عنه. في هذا السيناريو، يُصبح الذكاء الاصطناعي "شريكًا" للإنسان، يوسّع آفاقه الإبداعية ويدعمها، لكنّه لا يلغي دوره الأصيل. إذ يظلّ الإنسان هو الذي يُحدّد الأهداف، ويوجّه الأداة، ويُضفي على العملية الإبداعية اللمسة الإنسانية التي لا تملكها الآلة.
السيناريو الثاني هو "التنافس"؛ حيث يتصوّر أصحابه أنّ نظام الذكاء الاصطناعي التوليدي، بفضل ما يشهده من تطوّرٍ تقنيّ مُطّردٍ وتعظيمٍ فائقٍ لقدراته سيغدو قادرًا على أداء دورٍ تنافسيٍّ للإبداع الإنساني، بما قد يفتح الطريق إلى احتماليّة تفوقه على المُبدعين البشريين في بعض المجالات، أو في الكثير منها.
أمّا السيناريو الثالث، فهو "التكامل والاستقلال" في آنٍ واحد؛ حيث يتوقّع الباحثون ألّا تكون هناك حدود بين الإبداع الإنساني والآلي، إذ سيولد نوعٌ جديدٌ من الإبداع الهجين. ويُدلّل على ذلك أحد الباحثين بأنّ العالم قد يشهد أعمالًا فنيةً أو أدبيةً يتمّ فيها دمج القدرة التحليلية الهائلة للذكاء الاصطناعي مع الحسّ العاطفي والخبرة الإنسانية. على سبيل المثال، قد يستخدم مُلحنٌ بشريّ خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتطوير أجزاء معقّدةً من مقطوعةٍ موسيقية. أي إنّ العملية الإبداعية ستبدأ أولًا وتتمّ عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وقد يُضيف إليها الملحن في النهاية لمسةً إنسانية. هذا التكامل لن يقتصر على الإبداعات الفنية والأدبية والفكرية، بل سيمتدّ إلى الإبداع العلمي والتقني.
هل تبقى العلاقة بين الإبداع الإنساني والإبداع الاصطناعي خاضعة للشراكة ومُتاحة للجميع أم تصبح تنافسية؟
إنّ الإبداع الإنساني في زمن الذكاء الاصطناعي يقف اليوم على عتبة مفصلٍ تاريخيّ، لا يشبه ما قبله، شأنه شأن الكثير من القضايا والإشكاليّات التي أثرناها حول الذكاء الاصطناعي (راجع مقالاتنا في "عروبة 22": الذكاء الاصطناعي يستنفر العقل الماركسي، الذكاء الاصطناعي والعقل الديني، الذكاء الاصطناعي والشعور الإنساني، هل يقضي الذكاء الاصطناعي على الفقر أم يضاعف الفقراء؟، العدالة الرقمية زمن الذكاء الاصطناعي)... وبعد، إنّ الإبداع الإنساني، بتجلّياته المختلفة، يقينًا، هو نتاج تجربةٍ إنسانيةٍ حياتيةٍ/مجتمعيةٍ/حضاريةٍ عميقةٍ وثرية... بينما الإبداع الذكي الاصطناعي هو نتاج قدرةٍ تقنيةٍ فائقةٍ، فهل تبقى العلاقة بينهما خاضعةً للشراكة ومُتاحةً للجميع من دون تمييز، أم تصبح تنافسيةً أو تذهب إلى مداها الأقصى التكامُلي الذي يوفّر استقلالًا لكلّ مسارٍ إبداعيّ على حدَة؟.
(خاص "عروبة 22")

