يتبادل الطرفان المسؤولية عن ذلك، وهذا شيء طبيعي، خاصة بعد تطاول أمد الحرب، والتأكد أنها لن تنتهي سريعًا لمصلحة أحد الأطراف. لكن هناك أيضًا إشارات هنا وهناك للطرف الثالث، باعتباره المسؤول عن توريط الطرفين والبلاد كلّها في الحرب. والطرف الثالث بحسب رواية هؤلاء، هو مجموعة الإسلاميين المرتبطة بالنظام السابق، والموجودة في قيادة القوات المسلحة، وفي بعض مفاصل الدولة بعد أن أعاد الفريق عبد الفتاح البرهان تمكينهم من بعض الوزارات والمؤسسات بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م.
بعد سقوط نظام البشير، لجأ أنصار النظام القديم للسكون لفترة التقاط الأنفاس، خاصة بعد اعتقال معظم قياداتهم، ثم بدأوا تحركاتهم ضد الحكومة الانتقالية بعدّة طرق، ومن بينها تحريك أنصارهم في أجهزة الدولة وداخل القوات النظامية، الجيش والشرطة وجهاز المخابرات العامة، حيث أنهم وخلال فترة حكمهم استوعبوا دفعات كاملة من كوادرهم الطلابية في الكليات العسكرية، وصاروا رصيدًا يمكن تحريكه في أي لحظة.
العلاقة بين البرهان وتيار الحركة الإسلامية علاقة مصالح متبادلة
خضعت علاقة الشريكين المدني والعسكري في الفترة الانتقالية التي بدأت في سبتمبر 2019 للشدّ والجذب، وبدا واضحًا أنّ المكوّن العسكري يحاول التنصّل من الاتفاق والوثيقة الدستورية التي وقّع عليها والتزم بحمايتها. وهنا بدا للبرهان أنّ أيّ محاولة للانقلاب على الاتفاق وإبعاد قوى الحرية والتغيير التي كانت تمثّل قيادة الثورة الشعبية من الحكم لن يُكتب لها النجاح دون الاستعانة بالإسلاميين وكوادرهم المنتشرة في أجهزة الدولة، لكنه كان يضع في حساباته المعقّدة أيضًا أنّ دول الإقليم التي يمكن أن تدعمه تتخوّف من نفوذ الإسلاميين في الوضع الجديد، ومن هنا بدأت العلاقة المعقّدة بينه وبين الإسلاميين، والقائمة على أساس المنفعة المتبادلة، وفي الوقت نفسه، الشكوك المتبادلة التي تجعل كلّ طرف يحاول الاستفادة من الطرف الآخر دون أن يجعله يمتلك دفّة القيادة منفردًا.
العلاقة إذن بين البرهان وتيار الحركة الإسلامية ليست ارتباطًا عقائديًا، لكنها علاقة مصالح متبادلة في لحظات سياسية معينة، ويدرك الطرفان أنه مع تغيّر الظرف السياسي يمكن أن يتغيّر شكل ونوع العلاقة بدرجات مختلفة قد تصل لمرحلة النزاع ومحاولات التصفية.
بعد مرور عامين على بدء الانتقال، أقنع البرهان شريكه الجنرال حميدتي بالانقلاب على الفترة الانتقالية وإبعاد قوى الحرّية والتغيير من المشهد، وتم تنفيذ الانقلاب في 25 أكتوبر 2021 وسط حماس وتشجيع الإسلاميين، ودعم من مجموعة من الحركات المسلّحة الموقعة على اتفاق جوبا وحلفائهم السياسيين. وشهدت تلك الفترة تمدّد نفوذ الإسلاميين في كلّ أجهزة الدولة وبسرعة مذهلة تكشف عن أنهم كانوا جاهزين تمامًا بكشوفاتهم وجدول عمليات الإحلال والإبدال. وكانت نقطة الاستعانة بالإسلاميين نقطة خلاف كبيرة بين البرهان وحميدتي الذي تخوّف من محاولتهم الانتقام منه خاصة بعد فشل الانقلاب في تحقيق أي من أهدافه، وحين لاحت بوادر فشل انقلاب 25 أكتوبر، وفشل البرهان في تشكيل حكومة وفي إيجاد ظهير سياسي من بين القوى المدنية، ومع تواصل مسيرة الرفض الشعبي للانقلاب، تنامت الخلافات بين شريكيّ المكوّن العسكري، البرهان وحميدتي، وجد الإسلاميون الفرصة سانحة للتخلّص من حميدتي، ومعاقبته على تنكّره لهم وللرئيس السابق البشير والانقلاب عليه. وبدأوا في الدعم الواضح للبرهان ودفع الأمور نحو المواجهة المباشرة بين الرجلين.
اتجهت خطط الإسلاميين نحو وقف تنفيذ "الاتفاق الإطاري"، ودفع الخلاف بين البرهان وحميدتي نحو المواجهة العسكرية
في الوقت نفسه، بدأت جهود إقليمية ودولية وساطةً متعدّدة الأطراف لعبور الأزمة السياسية بالبلاد، وبجهود هذه الوساطة وافق البرهان على الحوار مع قوى الحرية والتغيير، واشترك حميدتي في الحوار، وتمّ التوصل للاتفاق الإطاري والتوقيع عليه في ديسمببر 2022م.
شعر الإسلاميون بخطورة هذا الاتفاق الذي يمهّد لعودة أحزاب الحرية والتغيير وتسليمها أمور السلطة الانتقالية، لذلك اتجهت كل خططهم نحو وقف تنفيذ الاتفاق الإطاري، ودفع الخلاف بين البرهان وحميدتي نحو المواجهة العسكرية. كانت حساباتهم قائمة على عدّة نقاط، أوّلها أن لا قبل للدعم السريع بمواجهة القوات المسلحة، وأن أيّ صدام بينهما سيحسمه الجيش في أقل من أسبوع، وبالتالي يتخلّصون من واحد من ألدّ خصومهم. ثانيًا أنّ البرهان فشل في إيجاد ظهير سياسي يسانده في معاركه المختلفة، وهم قادرون على توفير هذا الدعم له، وبالتالي سيجنون ثمار هذا الدعم. وثالثًا هم الفئة السياسية الوحيدة التي تملك قوة مقاتلة سبق تدريبها على السلاح وشاركت مع الجيش في معارك في الجنوب ودارفور، وهم يمثلون قوة احتياط يمكن استدعاء بعضها في أي لحظة، وسيمهّد هذا الأمر لعودتهم للسلطة بشكل أو بآخر، ورابعًا وأخيرًا كانوا يعلمون أن هناك قاعدة معتبرة من صغار الضباط وبعض القيادات المهنية داخل الجيش مستاءة من تمدّد نفوذ قوات الدعم السريع على حساب الجيش، وغاضبة من القيادة لسماحها بهذا الأمر، وبالتالي يمكن أن يشكّلوا رصيدًا كبيرًا للحرب ضد قوات الدعم السريع.
إذن بتحليل حسابات الربح والخسارة فإنّ أكثر المستفيدين من الحرب هم أتباع الحركة الإسلامية، فهي ستوقف تنفيذ الاتفاق الإطاري، وستغيّر موازين القوى، وتفرض واقعًا جديدًا لا مكان فيه لمن لا يحمل سلاحًا. وصاحب ذلك تصريحات وكتابات مباشرة وصريحة لبعض قيادات الحركة الإسلامية تقول إنهم لن يسمحوا بتطبيق الاتفاق الإطاري، وسيحوّلون البلاد إلى جحيم، ثم ظهرت إشارات هنا وهناك تشير إلى قرب حدوث مواجهات كبرى، بل إنّ بعض قادتهم كتب طالبًا من الناس أن يُخرجوا أُسَرهم من الخرطوم، وكان هذا قبل أيام من اندلاع الاشتباكات المسلحة.
تحليل مَن المستفيد مِن الحرب يقود مباشرة للإسلاميين، ضمن مستفيدين آخرين، لكنه قد لا ينهض دليلًا على أنهم خططوا للحرب وورّطوا الأطراف المختلفة فيها، فللأطراف الأخرى إرادات ومصالح ورؤى، وبالتالي فالنظر المنصف يضعهم في خانة الشركاء وليس خانة الفاعل الأساسي والوحيد. كذلك فإنّ الاستعدادات والحشد العسكري ولغة التهاتر التي سادت بين الطرفين في الأسابيع التي سبقت الحرب تقول إنّ الطرفين كانت لديهما خطط جاهزة للحرب، بغضّ النظر عن "مَن هو البادئ باطلاق الرصاصة الأولى".
عل مستوى المعلومات، والتي مصدرها الوسطاء الذين تحرّكوا بين الطرفين خلال الأيام الأخيرة قبل الحرب، فقد ذكروا أنهم تلقوا تطمينات من الطرفين بتهدئة الأوضاع وخفض التوتر، واستمرّت اللقاءات مساء يوم 14 أبريل وحتى صباح اليوم التالي 15 أبريل.
المراقبون يرجّحون أنّ فصيل الإسلاميين داخل الجيش هو الذي بدأ التحرك العسكري وورّط القيادة في القتال
الغريب في الأمر، هو أنه بعد أن بدأت الاشتباكات حول المدينة الرياضية بأقل من ساعة، هاجمت قوات حميدتي القيادة العامة ومقر سكن البرهان داخل القيادة العامة بشكل مباغت ومفاجئ ما ينبئ أنها كانت في حالة استعداد وربما تخطيط وتدريب على هذا الأمر. كما أنّ قوات الدعم السريع هاجمت حيّ المطار الذي يسكن به الوزراء وكبار قيادات الجيش واعتقلت المفتش العامة للقوات المسلحة وقائد مدرسة الاستخبارات وعددًا آخر من كبار القادة. والمنطق يقول لو أنّ قيادة الجيش كانت تخطط للهجوم على قوات الدعم السريع لما قضى هؤلاء الضباط الليل في منازلهم ولم يتحرّكوا لمكاتبهم حتى الساعة التاسعة صباحًا.
هذه المعلومات المتقاطعة هي التي جعلت كثيرًا من القوى السياسية والمراقبين يرجّحون أن فصيلًا داخل الجيش هو الذي بدأ التحرك العسكري يوم 15 أبريل، وورّط قيادة القوات المسلحة في القتال، وأنّ هذا الطرف هم الإسلاميون في الجيش بترتيب وتخطيط من قيادة الحركة الإسلامية. وعند هؤلاء أنه بعد هجوم الدعم السريع على مقرّ القيادة العامة للجيش واستهداف البرهان في منزله، والذي تقول المعلومات إنه نجا من الأسر أو القتل بأعجوبة، لم تجد القيادة مناصًا من الانخراط في القتال واستهداف كل قيادات وتجمّعات الدعم السريع.
ربما يكون السودانيون أقلّ اهتماما الآن بمن بدأ الحرب، بقدر اهتمامهم بسؤال متى وكيف ستتوقّف هذه الحرب، ومتى يعودون لبيوتهم ومساكنهم أو ما تبقى منها، لكنهم سيعودون لطرح هذا السؤال مرّة أخرى في إطار البحث والتنقيب في الدروس والعبر.
(خاص "عروبة 22")