تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: خديعة الحيادية!

كلّنا بتنا وأضحَيْنا خبراء في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. نعدّد خصائصها ومزاياها، نثني على إبداعاتها في قطاعات الصحة والتعليم، زمن الحرب وزمن السلم، ثم نبني كل آمالنا على تباشيرها وما قد تحمله لنا من فتوحات. ومع أنّنا، نحن شعوب العالم الثالث، مجرّد مستهلكين لتقنيات وبرامج نستوردها، فإنّنا لا نتساءل عن سبل وإمكانات موطَنتها بغرض تملّكها، بل نتلقّفها كمستعملين كما لو أنّها صنيعة أيدينا وابنة بيئتنا.

تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: خديعة الحيادية!

التكنولوجيا عمومًا، وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على وجه التحديد، ليست فقط أدوات وسلع وتقنيّات وبنى تحتية وبرامج وتطبيقات. إنّها كذلك من دون شكّ في ظاهرها وفي مظهرها، لكنّها في الآن ذاته مجال تتقاطع فيه روافد المعرفة والسلطة والإيديولوجيا. إنّها مستجدّات تُجسّد تعبيرات مُتشكّلة من علاقات اجتماعية، من قِيم رمزية ومن سُلَطٍ يتمتّع بها مَن صمّمها أو قام بتصنيعها أو نفخ فيها من روحه.

معاينة مسلسل اشتغال الذكاء الاصطناعي التوليدي تَشي بأنّ هذه التكنولوجيا لا يمكن أن تكون محايدة

لذلك، فهذه التكنولوجيا ليست ولا يمكن أن تكون محايدة، إذ هي نتاج تفاعلات مجتمعاتيّة سواء تعلّق الأمر في زمن ما بمستجدّ الإذاعة والتلفزة والأقمار الصناعية، أو تعلّق بالتكنولوجيات الرقمية التي أفرزت الطفرات الكبرى لأجيال الإنترنت المتتالية، ثمّ للتطوّرات العميقة التي طالت منظومة الخوارزميات وما استتبعها من تطبيقات في الذكاء الاصطناعي التوليدي والتعلّم العميق والاستعمال الواسع للمعطيات الضخمة.

الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس أداةً معلوماتية، صمّمها الخبراء والتقنيون. لو كان كذلك، لهان أمر نقل التكنولوجيا الثاوية خلفها في الزمن وفيما بين الفضاءات. إنّ مجرد معاينة عابرة لمسلسل اشتغاله تَشي بأنّ هذه التكنولوجيا لا يمكن أن تكون محايدة، لا انطلاقًا من طبيعة المعطيات الضخمة التي تتدرّب عليها، ولا احتكامًا إلى أنظمة التصميم التي تتشكّل منها أو تخضع لها، ولا من منظور مفاتيح الأمان التي تستوجب قراراتٍ بشريةً لضمان ديمومتها، ولا من زاوية أنماط الخلل المُباح تحمّلها، ولا بمستويات المجازفة التي قد تترتّب عن تطبيقاتها.

خوارزميات هذه التكنولوجيا تمّ تصميمها كي تخدم إيديولوجية "رأسمالية الدم"

لو تأمّلنا نمط البناء الذي تخضع له برمجيّات الذكاء الاصطناعي التي تثوي خلفها المنصّات الرقمية الكبرى مثلًا، وكيف تُصمّم خوارزمياتها، بأيّ خلفية ولأيّ غايات، سيتبيّن لنا قطعًا أنّ الأمر يتجاوز البُعد التكنولوجي والاقتصادي والتجاري، ليطال الأبعاد الأخلاقية والإيديولوجية وعلاقات السلطة التي تُؤطّر لها المرجعية وتحدّد لها الطبيعة والطابع.

لقد تحدّثنا في مناسباتٍ سابقة، ومن على هذا المنبر، عن دور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في إبادة سكان غزّة، وكيف باتت هذه التكنولوجيا التي خلناها محايدةً لدرجة "البراءة"، أداةً معلوماتيةً موجّهةً صوب القتل والتدمير. وتحدّثنا أيضًا عن أنّ خوارزميات هذه التكنولوجيا إنّما تمّ تصميمها كي تخدم إيديولوجية "رأسمالية الدم" التي باتت تنحو ناحية تسليع الموت وتعظيم الربح المتأتّي من عظام وجماجم البشر.

لا يقتصر طرح حيادية تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على البُعد المادّي الخالص الذي نلمسه، أي على أثر ووقع القرار المنبني على هذه التكنولوجيا. إنّه يتعدّاه ليطال الأبعاد الرمزية المضمرة في هذه التكنولوجيا، والتي تنهل من مبدأ التابع والمتبوع.

إنّ تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تتّخذ من تيارات العولمة رافدًا وحاملًا أساسيّا. لذلك، فهي تتغيّا التنميط الشامل لملايير المتلقّين، المرتبطين بالشبكات القارية كما الخاضعين لمنطق إنترنت الأشياء والرقابة المطلقة. وسيلتها تكمن في طريقة صياغة الخوارزميات كي تفرز "طبخةً واحدةً" لمستهلكين عدّة: فيديوات قصيرة، عناوين جذّابة مختصرة، ملخصات مقتضبة لملفات معقّدة... إلخ. الأدوات مُتباينة هنا، لكن المقصد واحد: تنميط الأساليب وقوْلبة الأمزجة واستبعاد خاصّية التنوّع الملازمة أصلًا لحيادية التكنولوجيا.

من المُثير للاستغراب حقًا أنّ كبار قطاع التكنولوجيا الرقمية لا يتوانون عن الادّعاء بأنّ "منتجاتهم" محايدة، وتصاميمها موضوعية، وخوارزمياتها "منصفة"، والحال أنّ معظمهم لا يتساوقون مثلًا مع مطلب نشر مواصفاتها التقنية، بدعوى الخشية من السطو أو لكونها أداة تميّز وتمايز لا يمكن تمكين المنافسين من أسرارها.

تحوّلنا جميعًا إلى رهائن لدى تكنولوجيا تزجّ بنا في مصيدة لا نستطيع الفكاك من عقالها

لذلك، تجدهم لا يتردّدون على مستوى الخطاب، في الدفاع عن حكامة مُهيكلة حول قِيم الشفافية والتعدّدية والحيادية، لكنّهم لا يقبلون بنشر مصادر المعطيات الضخمة التي يعملون على تجميعها، ولا الإشارة إلى التغييرات التي يُدخلونها أو يعتزمون إدخالها على أنظمتهم الخوارزمية كأساسٍ للشفافية والتعدّدية والنفاذ.

ثم إنّ الاستقلاليّة التي تنشدها كبريات المنصّات الرقمية غالبًا ما تطال في تبعاتها، المقاصد الديموقراطية الكبرى. إذ بدفعها بنمطٍ واحدٍ في الخطاب، فإنّها تغتال بُعد الاختلاف والتدافع الذي تستوجبه العملية الديموقراطية وترتكز عليه.

الآراء هنا تتّجه لتصبح رأيًا مُنمّطًا واحدًا، والاختلاف يتّجه ليصبح معطى عابرًا، عوض أن يتكرّس كمعطى قار وثابت. يترتّب على كل ذلك، تحوّلنا جميعًا إلى رهائن لدى كبار تكنولوجيا في الذكاء الاصطناعي خلناها محايدةً، فإذا بها تزجّ بنا في مصيدة لا نستطيع الفكاك من عقالها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن