بصمات

لماذا لا يُحارِب العرب؟!

قام الإقطاع الأوروبي على ركائز عدّة أهمّها التمايز الطبقي الشديد بين النبلاء والأرستقراطية، وبين الفلاحين والعبيد. مع الدمج الشديد بين الوظيفتَيْن العسكرية والسياسية، وفصلهما عن الوظيفة الاقتصادية. فالنبلاء والسادة هم المقاتلون، سواء بأنفسهم أو بمَن يستطيعون تجنيدهم من مرتزقة وأتباع. أمّا الفلاحون والأقنان فلا يقاتلون، بل يقومون فقط بالخدمة إمّا في بيوت السادة الذين اشتروهم كعبيد رقبة، أو في ضِيَعِهِم ودوقيّاتهم كعبيد أرض، يُباعون ويُشترون معها.

لماذا لا يُحارِب العرب؟!

لأنّ ممارسة الحرب وتكوين الجيوش عملية مرتبطة بالسياسة فقد انفصلت السلطة عن عموم الناس، ولم يَكُنْ للجمهور رأي في قرارَيْ الحرب والسلام، ولا في تسمية العدو والصديق. أخذ الإقطاع ينهار مع تطوّر مفهوم الدولة القوميّة المولودة من رحم "معاهدة وستفاليا"، وبالذّات مع رسوخ نظرية العقد الاجتماعي التي تصوّرت اتفاقًا مكتوبًا بين محكومين أرادوا الخروج من حالة الطبيعة، حيث العنف العاري وقوانين الغاب إلى أفق التحضّر، إلى مجتمعاتٍ تمتلك السلطة الشرعية، تمارس السياسة، تأخذ مصيرها بيدها، خصوصًا قرارَي الحرب والسلام.

إدمان المجتمعات العربية للسلطة الرعوية لم ينته

في السياق العربي، انتفت العلمنة السياسية، وتعثّرت مسيرة الدولة الوطنية، ولم تعرف ثقافتنا السياسية مفهوم العقد الاجتماعي الحديث، فظلّت مجتمعاتنا أسيرةً لعقد بدائي موروث يتمثّل في نموذج "السلطة الرعوية"، وهو المعادِل العربي لظاهرة الإقطاع الأوروبي. جوهر هذا النموذج أن تقوم فئة/جماعة وظيفيّة ليست من نسيج المجتمع الأهلي بأداء الوظيفة العسكرية نيابةً عنه، وفي المقابل فإنّها تتحكّم في سلطته السياسية وموارده الاقتصادية.

بدأ هذا العقد بهيمنة الفرس على الخلافة العباسية في عصرها الأول. ونما مع هيمنة الأتراك بعنفوانهم العسكري وفقرهم العلمي والثقافي، على العصر العباسي الثاني. وترسّخ باجتياح التتار للمشرق العربي، فَهُم بدوٌ رحّل، يتمتّعون بالقوة من دون الثقافة، ويفتقدون البناء الاقتصادي الذي يكفل إعاشتهم، ولذا كان هجومهم على المشرق العربي محض ممارسةٍ لنشاط معتاد وهو اقتصاد الغزو. استمرّ هذا النموذج في ظلّ العصرَيْن المملوكي والعثماني من دون ممانعة تُذكر، بل إنّ المصريين أنفسهم هم من رفعوا الجندي الألباني محمد علي إلى سدّة السلطة ليصبح باشا مصر، ولم يفكّروا في تولية أحد زعماء ثورتهم ضدّ الاحتلال الفرنسي.

لحظة معتّمة تشبه لحظات سابقة في تاريخنا كان الولاة والأمراء خلالها يشترون الوقت بتنازلاتهم لأعدائهم

سقطت الخلافة العثمانية، ثم انتهى الاحتلال الأوروبي حوالى منتصف القرن العشرين، لكنّ إدمان المجتمعات العربية للسلطة الرعوية لم ينته. وبدلًا من الخضوع الصريح لنُخبٍ عِرقيةٍ غير عربية، فإنّها خضعت باضطرادٍ إمّا لنخب عسكرية طالبت بالاستقلال وحصلت عليه، أو لسلطات محلية، غالبًا قبليّة، تدين بالولاء وتتمتّع بحماية الدول الاستعمارية. في نهاية القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين، تكرّر توارث السلطة، إمّا في إطار عائلي / قبلي / طائفي، أو في إطار سلطوي / إيديولوجي / حزبي، أتى بنخبٍ لم تكن في مستوى سابقاتها، ورثت عنها استبدادها وتركت جلّ فضائلها، وعلى رأسها الصلابة في مواجهة الغرب، والتعالي على النزعات الطائفية والمذهبية، ومحاولة التعبير عن الإجماع الوطني ومجاراة التيّار القومي العام.

هكذا استمرّت مجتمعاتنا بطريركيةً في جوهرها، تُعاند جلّ سلطاتها الحكم المدني، لا تقبل بالتعدّد ولا تسمح بالاختلاف. وظلّ الإنسان العربي ذاتًا ضائعةً في بلدان الثراء كما في بلدان الفقر، تستطيع السلطة أن تفعل به كلّ ما تريد... أن تبعث به إلى السجون والمنافي لأنه فقط اعتنق آراء مخالفةً للسائد لم يستطع ضميره كتمانها... أن ترسله إلى مقاصل الموت بلا ذنبٍ جناه من دون أن يهتزّ لها جفن، فيما يرتع على أرضها المحتكرون للسلع، والمتلاعبون بالأسواق، وسارقو الأراضي، وناهبو البنوك، ومزوّرو الانتخابات، وغيرهم ممّن يستحقون مقصلة القانون... أن تسمّي له أعداءه وأصدقاءه من دون معايير، ليصير الشقيق عدوًّا، والعدو صديقًا، تجلس على حجره بأمان بعد أن عجزت عن مجابهته بشجاعة، تُقبّل يده بخشوع بعد أن عجزت عن الوصول إلى عنقه، تُلحّ في طلب السلام معه فيما يصرّح برغبته في احتلال أراضي سبع دول منها بذريعة رؤية روحية وتاريخية تراوده.

نخشى أن يصبح زماننا هذا عارًا جديدًا يُخْجِل مَن سيأتون بعدنا

لقد أوغلت مجتمعاتنا في طريق الضعف حتى بلغت محطة الهوان، لنجد أنفسنا في لحظةٍ معتّمةٍ تشبه لحظات سابقة في تاريخنا، كان الولاة والأمراء المسلمون خلالها يشترون الوقت بتنازلاتهم لأعدائهم، ويغطّون على ضعفهم بخياناتهم لبني جلدتهم، والتحالف مع أعدائهم من الأمراء والملوك الأوروبيين المسيحيين المُفعمين بروحٍ صليبية، وأحيانًا للحكامِ المغول المفعمين بروح القسوة والهمجيّة.

كان الحكام المسلمون في دمشق وبغداد والقاهرة والأندلس، لسذاجتهم، يتصوّرون أن عدوّهم سوف يشبع بهضم جيرانهم ثم يُدير رأسه عنهم. إنّها اللحظات التي أدانها التاريخ اللّاحق عليها حتى بتنا نشعر إزاءها بالعار، ولكننا في الوقت ذاته نخشى أن يصبح زماننا هذا، حيث يُباد أشقاؤنا في ظلّ صمتنا وعجزنا، عارًا جديدًا، يُخْجِلُ مَن سيأتون بعدنا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن