بخصوص الهدف الأول، قد لا يدرك الكثيرون أنّ حركية الاندماج الثقافي في العالم العربي حققت بالفعل مكاسب نوعية لا يمكن التشكيك فيها. لم يكن الوعي العروبي نفسه قويًا في عدد من السياقات والساحات إلى حد أنّ المؤتمر العربي الأول الذي عُقد في باريس سنة ١٩١٣ بتنظيم من جمعية العربية الفتاة لم يشارك فيه سوى مندوبين من الأقاليم العربية العثمانية (لبنان وسوريا والعراق وفلسطين)، أما دول المغرب العربي فلم تكن معنية بهذه المبادرة.
فشلت المحاولات لتفتيت الوحدة اللغوية العربية من خلال كتابة واستخدام اللهجات المحلية
في بلدان شمال أفريقيا، تمحور الوعي السياسي في البداية حول المرجعية الإسلامية، بما عكسته الأحزاب التحرّرية الأولى التي عرفتها المنطقة مثل: جمعية علماء المسلمين في الجزائر، وحزب الاستقلال المغربي الذي أسّسه علماء القرويين، والحزب الدستوري التونسي الذي أسّسه العالِم الزيتوني عبد العزيز الثعالبي. وكما يبيّن المفكّر المغربي المرحوم محمد عابد الجابري، لم يكن زعماء الحركة الوطنية في المغرب العربي يفرّقون بين العروبة والإسلام، ولذا سرعان ما اندمجوا منذ بداية الخمسينيات في التيار القومي، وكان لهذا التيار دور بارز في احتضان ودعم حركات المقاومة ضد الاستعمار في شمال أفريقيا. ولسنا بحاجة إلى الحديث عن محورية الموضوع الفلسطيني في الخطاب القومي العربي إلى حد أنّ المشروع العروبي اعتبر نفسه في تعارض جوهري مع المشروع الصهيوني الذي هو نقيضه المباشر من حيث الأفكار والتوجهات والأهداف.
وإذا كان المؤرخ الفرنسي الكبير فرناند بروديل بيّن أنّ الدولة في أوروبا هي التي قادت عملية الاندماج الثقافي واللغوي، فإنّ التيار العروبي هو الذي اضطلع بهذه المهمة في الساحة العربية، رغم استفحال ظاهرة التفكّك السياسي والعجز عن الحد الأدنى من الوحدة القومية المنشودة. لقد فشلت المحاولات التي جرت سابقًا لتفتيت الوحدة اللغوية العربية من خلال كتابة واستخدام اللهجات المحلية، وتمكّنت التربية والإعلام والنشر من توطيد الوحدة الثقافية العربية إلى مستوى لا نلاحظ له مثيلًا حتى في المجموعات الثقافية المشتركة (مثل العالم الفرانكفوني أو العالم اللاتيني الناطق بالإسبانية).
لا يمكن للدول العربية أن تتكيّف "أشتاتًا" مع الصراع الاستراتيجي الدولي الجديد
والحقيقة أنّ فكرة العروبة لا تزال أفقًا مفتوحًا لتحقيق متطلّبات الوجود العربي المستقبلي الذي لن يأخذ بالضرورة شكل الاندماج الفوري الشامل. من محدّدات هذه المهمّة المستقبلية مطلبان:
- صيانة الهوية الثقافية والقيمية للأمّة في سياق يتميّز بالقولبة الكونية القهرية التي تفضي إلى أحد مأزقين: استبدال معايير "العالم المعيش" (أي المنظومة الرمزية الإنسانية) بنمط من المسلكيات الإجرائية الآلية التي تعيد البشرية لقاع العبودية الجديدة عبر التقنيات التواصلية والجينية الخارجة عن تحكّم الإنسان وتوجيهه، أو إعادة إنتاج الهويات الخصوصية المغلقة باسم حقوق التنوّع الثقافي في ما أصبح يُعبّر عنه في الفكر الأمريكي الراهن بظاهرة اليقظة العنصرية Wokeism.
- ضمان التموقع الجيوسياسي الفاعل للكتلة العربية في رهانات الصراع الاستراتيجي الدولي الجديد الذي لا يمكن للدول العربية أن تتكيّف معه أشتاتًا. من محدّدات هذا الصراع الدولي الجديد بروز معادلات جديدة في شرق المتوسط والبحر الأحمر وآسيا الوسطى، تستهدف كلّها بشكل أو آخر المنظومة الإقليمية العربية في إطار خارطة عالمية سريعة التحوّل.
ولا شكّ أنّ فكرة العروبة لا تزال موضوعيًا هي الإطار الناظم للخيار الاستراتيجي العربي في المستقبل، وإن كان الثمن هو ما يتفق عليه الجميع من ضرورة التحرّر من الرواسب الأيديولوجية المعيقة، والبناء على حقائق ومقوّمات التكامل والمصلحة الكثيرة.
(خاص "عروبة 22")