رغم أنها خطوة تبدو رمزية، إلا أنها تعكس تغيّرات عميقة في المجتمع الهندي تستحقّ التأمّل والتوقّف عندها، في كيفية اختلاق هوية قومية جديدة بلمحة عنصرية، وتأثير ذلك على الداخل ومكوّناته، والخارج حيث جماعات يمينية قد تستلهم هذه التجربة.
يرى بندكت أندرسون في كتابه المهم "الجماعات المتخيّلة"، أنّ الأمّة "جماعة سياسية متخيّلة"، فإذا أخذنا المفاهيم التي يطرحها في كتابه، سنجد أننا - بلا أي مبالغة - أمام أكبر عملية لخلق هوية قومية في العصر الحديث - بما يتفوّق على تجربة إسرائيل المتخيّلة -، وذلك على يد الحزب الهندي الحاكم، الذي يسعى إلى تشكيل هوية جديدة تعتمد على انتقاء تاريخي لصالح الأغلبية الهندوسية، لتصبح الهوية الوحيدة للبلاد، مع حذف / تهميش كل المكوّنات الأخرى التي تمتلك وجودًا تاريخيًا حقيقيًا، بما في ذلك مجموعة المسلمين والمسيحيين وغيرهما من الأقليات.
خطورة ما يحدث في الهند حاليًا أنه يجري في ظلّ تصاعد الخطاب العنصري، المحمّل بالخوف من الآخر وخطاب الكراهية ضده، والذي تغذيه ممارسات الحزب الحاكم، هنا ينزلق الخطاب القومي إلى هوة العنصرية، كأداة للقمع والسيطرة في الداخل، بحسب ما يرى أندرسون في تحليله للخطاب القومي العنصري، فتتحوّل الهوية القومية إلى تعبير حصري عن الهندوسية في معاداة صريحة للأقليات.
مودي يسعى إلى هندسة الهوية الهندية من جديد لتضمن لحزبه البقاء في السلطة إلى الأبد
وهو ما تؤكده منظمة العفو الدولية، التي علّقت أعمالها في البلاد منذ 2020 بعد مضايقات حكومية، إذ تحذّر من "تعرّض أبناء الأقليات الدينية، ولا سيما المسلمون، على نحو متزايد لإلصاق الاتهامات والأوصاف السيئة بهم، على أيدي الجماعات الهندوسية المتشدّدة، والإعلام المؤيّد للحكومة، وبعض مسؤولي الولايات"، ولا يختلف الأمر عن تقرير "هيومن رايتس ووتش" الصادر في أكتوبر الماضي، وحمل عنوان "تصاعد العقوبات غير القانونية ضد المسلمين".
في المقابل، يزعم أنصار "بهارات" أنّ استخدام المصطلح الأخير الذي يقولون إنه الاسم الأصلي لبلادهم منذ قديم الأزل، يقطع مع الميراث الاستعماري، وأنّ مصطلح "الهند" استخدام بريطاني بالأساس، لكن عند مراجعة التاريخ، سنجد أنفسنا أمام سؤال منطقي، وهو: هل الهند بوضعها الحالي اختراع استعماري؟؛ إنّ السؤال هنا له ما يبرّره، فالهند كوحدة سياسية تشمل شبه القارة كلّها لم تظهر تاريخيًا إلا على يد الاستعمار البريطاني، يعني هذا أنّ الحقبة الاستعمارية أصبحت جزءًا أساسيًا من تاريخ البلاد ومراحل تطوّره، ولا يمكن القطع مع تلك الحقبة على المستوى الرمزي ثم العودة للاستفادة الكاملة من موروثها السياسي على أرض الواقع.
لذا يبدو أنّ حزب مودي يسعى إلى هندسة الهوية الهندية من جديد على أسس من الحقبة الاستعمارية، لتضمن له ولحزبه البقاء في السلطة إلى الأبد، حيث يصبح الحزب هنا ليس فقط المتحدّث باسم الأغلبية بل هو الحقيقة المتجلّية للهوية الهندية الجديدة المتخيّلة، وبالتالي محاولة مواجهته تعني مواجهة الذات الهندية.
والمدهش أنّ تأسيس هذه الهوية يبني فعليًا على الميراث الاستعماري، على الرغم من تبنّيه لخطاب شعبوي يرفض كل ما هو بريطاني، فالسعي لفرض هوية شاملة على كل المساحة الهندية هو ميراث استعماري بامتياز لدولة لم تعرف الوحدة السياسية في تاريخها ما قبل الاستعماري.
على الرأي العام العالمي أن يدين الخطاب الإقصائي في الهند لمنع مثل هكذا خطاب من الانتشار عالميًا
تكمن خطورة الموجة القومية ذات اللمحة العنصرية القوية في الهند، في وضع الأخيرة كقوة عالمية صاعدة اقتصاديًا وسياسيًا، فضلًا عن أنها ستصبح أكبر دولة سكانًا قريبًا، ما يعني أنها ستكون النموذج للعديد من الأحزاب والجماعات ذات البُعد القومي العنصري في مختلف أنحاء العالم، لكي تمضي في الطريق نفسه وبقوة استئناسًا بتجربة "الهند" أو "بهارات"، ما يبشّر بموجات متزايدة من اضطهاد الأقليات العرقية والدينية في مختلف أنحاء العالم، فضلًا عن أنّ تجربة الهند إذا استمرّت في طريقها الحالي، ستغطي على جرائم فصل عنصري قائمة بالفعل كما هو حاصل مع إسرائيل وما تفعله في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
من هنا يجب على الرأي العام العالمي متابعة ما يجري في الهند بدقّة، وأن يدين الخطاب اليميني الإقصائي فيها، كمقدّمة أساسية لمنع مثل هكذا خطاب من الانتشار عالميًا، والعمل على بناء قواعد راسخة لإدانة ومحاصرة أي خطاب يميني متطرّف ونزع سلاح المشروعية من يديه أوّل بأوّل.
(خاص "عروبة 22")