ما أقصده بالجينات أن تكون المواقف "عمليةً" في مواجهة الطرف الآخر، ولا فرق بين أن يكون الطرف الآخر هناك في أيام القرون الثمانية تجاه العدو الذي كان يتربّص بالعرب والمسلمين وقتها، أو يكون هنا في القرن الحادي والعشرين تجاه إسرائيل. لا فرق لأنّ المواقف من هذه النوعية هي التي يخشاها العدو في الحالتَيْن ويضع لها كل اعتبار.
وإذا شئنا مثلًا قريبًا فلنرجع إلى ما أعلنته لانا نسيبة، المبعوثة الإماراتية الخاصّة، عندما قالت إنّ مُضي حكومة التطرّف في تل أبيب فيما تتحدّث عنه بشأن ضمّ الضفّة الغربية أو أجزاء منها، سوف يكون بمثابة الخط الأحمر لبلادها، وسوف يترتّب عليه سحب اليد العربية الممدودة إلى إسرائيل، على الرَّغم ممّا ارتكبته وترتكبه من جرائم في أنحاء المنطقة.
مراجعة اتفاقيات السلام الإبراهيمي سوف تمسّ العصب الاقتصادي لدى الإسرائيليين وهو عصب لا يحتملونه
كان المعنى المباشر لكلام المبعوثة الإماراتية أنّ بلادها سوف تُعيد النظر في اتفاقيات "السلام الإبراهيمي" التي وقّعتها مع إسرائيل في 2020، وبكلّ العواقب التي يمكن أن تترتّب على إعادة النظر، والتي تعرفها وتفهمها الحكومة في تل أبيب تمام الفهم.
نعرف طبعًا أنّ اتفاقيات "السلام الإبراهيمي" قامت على أساسٍ اقتصاديّ مجرّد، وبالتالي، فإنّ مراجعتها من جانب الإمارات، أو من جانب بقية الدول العربية التي وقّعتها، سوف تمسّ العصب الاقتصادي بالذات لدى الإسرائيليين، وهو عصب لا يحتملونه، ولا يطيقونه، ولا يقدرون على استيعاب نتائجه.
ما كادت المبعوثة الإماراتية تُطلق تصريحها، حتى سارع بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة التطرّف في تل أبيب، إلى شطب البند الخاص بالضفّة في أول اجتماع لحكومته بعد هذا التصريح!.
تلال من الشجب منذ 1948 لم تُحرّر أرضًا ولا طردت عدوًّا
مثل هذه المواقف هي التي يفهمها الإسرائيليون، ولا يفهمون بالتأكيد أي شجب أو إدانة أو رفض شفوي لسلوكهم وسياستهم، وإلّا، فلو كانت الإدانة تحرّكهم أو توقفهم، ولو كان الشجب يردعهم، لكانت فلسطين قد تحرّرت من زمان، وما كان هناك اليوم متر فلسطيني واحد محتلّ.
إنّ تلالًا من الشجب قد بناها العرب منذ قيام إسرائيل في 1948، وإلى جانب هذه التلال هناك جبال من الإدانة، ومع ذلك، فإنّها كلّها لم تُحرّر أرضًا ولا طردت عدوًّا، وبقيت الأراضي الفلسطينية المحتلّة كما هي، بل إنّها نقصت عما كانت عليه يوم صدر قرار التقسيم في عام 1947!.
أعود الى موقف الحكومة الإسبانية، لأشير إلى ما يقوله سانشيز على الدوام، وبما يجعل مواقفه شديدة التميّز عن كلّ موقف أوروبي في القارة العجوز. وليس أقرب إلينا من مواقفه إلّا ما أعلنه يوم الثالث من الشهر الجاري وهو في طريقه إلى بريطانيا، إذ قال إنّه إذا كان هناك عنوان للموقف الأوروبي تجاه ما يحدث في غزّة، فهذا العنوان يتلخّص في كلمةٍ واحدةٍ هي: الفشل. ثم أضاف ليقول إنّ الموقف الأوروبي المُتخاذِل تجاه ما يتعرّض له الفلسطينيون، يُعَبِّرُ عن فترةٍ قاتمةٍ في العلاقات الدولية.
لدى الطرف العربي ما يفعله وليس فقط ما يقوله
هذا ما قاله وقد قال مثله الكثير من قبل، أمّا ما فعله فكان حين دعا وزارة الداخلية في حكومته إلى إلغاء صفقة كانت الوزارة قد عقدتها مع شركةٍ إسرائيليةٍ، وقد ألغت وزارة داخليته الصفقة بالفعل، وأحدث الإلغاء صخبًا داخل إسرائيل، ولكنّه صخب لم يؤثّر بأي مقدار في الحكومة الإسبانية ولا في موقفها القوي.
بمثل هذه المواقف يرتدع الإسرائيليون، وبمثلها يفهمون أنّ لدى الطرف العربي ما يفعله وليس فقط ما يقوله. وإذا افترضنا أنّ الموقف الإسباني يقوم على أساس من الجينات العربية المتبقّية في بلاد الأندلس، فإنّنا نحن العرب مدعوون إلى إيقاظ هذه الجينات داخلنا في هذه الأيام وفي كلّ الأيام.
(خاص "عروبة 22")