قَبْلَ اتِّفاقِ وَقْفِ إِطْلاقِ النّارِ الأَخيرِ في غَزَّةَ قَتَلَتْ إِسْرائيلُ ما يَزيدُ عَنْ 70 أَلْفَ فِلَسْطينيّ، وَأَصابَتْ ما يَرْبو على الـ100 أَلْف، فَضْلًا عَنِ التَّدْميرِ شِبْهِ الكامِلِ لِغَزَّة، لَكِنَّ الأَهَمَّ أَنَّ هَذا السُّلوكَ اسْتَمَرَّ بَعْدَ بَدْءِ سَرَيانِ اتِّفاقِ وَقْفِ إِطْلاقِ النّارِ لِأَوْهى الذَّرائِع، فَضْلًا عَنْ عَدَمِ الالْتِزامِ بِإِدْخالِ كَمِّياتِ المُساعَداتِ التي نَصَّ عَلَيْها الِاتِّفاق، وَالتَّحَكُّمِ في نَوْعِيَّتِها وَفْقًا لِلرَّغْبَةِ في اسْتِمْرارِ إِذْلالِ أَهْلِ غَزَّة.
أَمّا الضَّفَّةُ فَحَدِّثْ عَنْ جَرائِمِ إِسْرائيلَ بِمُسْتَوْطِنيها وَجَيْشِها وَلا حَرَج، وَيَتَكَرَّرُ السُّلوكُ نَفْسُهُ في لُبْنانَ وَسورِيا مَعَ خِلافٍ في التَّفاصيل، فَلا الْتِزامَ إِسْرائيلِيًّا في لُبْنانَ بِاتِّفاقِ وَقْفِ إِطْلاقِ النّار، مَعَ إِعْطاءِ إِسْرائيلَ لِنَفْسِها الحَقَّ كالْعادَةِ في أَنْ تُحَدِّدَ لِنَفْسِها الأَعْمالَ المُهَدِّدَةَ لِأَمْنِها وَالأَماكِنَ التي تَتِمُّ فيها هَذِهِ الأَعْمال، فَتَقْصِفُ وَتَقْتُلُ وَتُدَمِّرُ وَتُرَوِّع.
تتوسّع إسرائيل في انتهاك التزاماتها وتغيب الكوابح لسلوكها
أَمّا سورِيا فَهِيَ الدَّليلُ الأَكيدُ على العَرْبَدَة، فالْحُكْمُ الحالي فيها لَمْ يَدَعْ مَجالًا لِلشَّكِّ في نَواياهُ السِّلْمِيَّةِ تُجاهَ الجَميعِ وَأَوَّلُهُمْ إِسْرائيل، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ثابَرَتْ على اعْتِبارِهِ خَطَرًا على أَمْنِها، على الرَّغْمِ من عَلاقاتِها الإِيجابِيَّةِ مَعَ "جَبْهَةِ النُّصْرَةِ" إِبّانَ قِتالِها ضِدَّ نِظامِ الْأَسَد. وَهَكَذا سارَعَتْ إِسْرائيلُ إلى إِلْغاءِ اتِّفاقِيَّةِ فَضِّ الاشْتِباكِ 1974، وَاحْتِلالِ المِنْطَقَةِ العازِلَةِ وَمَوْقِعِ جَبَلِ الشَّيْخ، وَتَدْميرِ الجَيْشِ السّوريِّ وَصِناعاتِهِ العَسْكَرِيَّةِ وَمَراكِزِهِ البَحْثِيَّة، بَلْ وَالتَّدَخُّلِ عَلَنًا في الشَّأْنِ السّوريِّ الدّاخِلي بِدَعْوى حِمايَةِ أَقَلِيّاتٍ بِعَيْنِها. وَرَأْيي أَنَّ إِسْرائيلَ تُريدُ انْتِهازَ الفُرْصَةِ لِلْإِجْهازِ على سورِيا كَكِيانٍ مُوَحَّد، بِاعْتِبارِ دَوْرِها الأَساسيِّ في التَّصَدِّي لِلْمَشْروعِ الصُّهْيونيِّ عَبْرَ العُقود.
وَفي الوَقْتِ الرّاهِنِ الذي تَتَوَسَّعُ فيهِ إِسْرائيلُ في انْتِهاكِ التِزاماتِها، تَغيبُ الكَوابِحُ لِسُلوكِها، فالمُقاوَمَةُ مُلْتَزِمَةٌ بِوَقْفِ إِطْلاقِ النّارِ، وَرُدودُ فِعْلِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلامِيَّةِ مَحْدودَةٌ بِسَقْفِ الدّيبْلوماسِيَّةِ العاقِلَة. وَيَنْسَحِبُ الأَمْرُ نَفْسُهُ على رُدودِ فِعْلِ القُوَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُفْتَرَضُ أَنَّهُما تَتَبَوَّآنِ الآنَ مَكانًا على الْقِمَّةِ الدَّوْلِيَّة، وَبِالتّالي قَدْ يَكونُ مِنَ الْمُفارَقَةِ أَنْ يَنْصَبَّ الرِّهانُ الآنَ على المَوْقِفِ الْأَميرْكيِّ وَتَحْديدًا مَوْقِفِ تْرامْب من تَنْفيذِ الِاتِّفاق، وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلى أَنَّهُ المُبادِرُ بِه، وَالفَخورُ بِإِنْجازِه. وَالْإِشْكالِيَّةُ في الرِّهانِ على مَوْقِفِهِ كَضَمانَةٍ لِلِاسْتِمْرارِ في عَمَلِيّةِ السَّلامِ أَنَّنا لا يُمْكِنُ أَنْ نَتَجاهَلَ التَّقاليدَ الرّاسِخَةَ لِلانْحِيازِ الْأَميركيِّ لِإِسْرائيلَ عامَّةً وَانْحِيازِ تْرامْب لَها خاصَّة، كَما ظَهَرَ مُنْذُ وِلايَتِهِ الأولى. غَيْرَ أَنَّ ما يُعْطي أَساسًا لِهَذا الرِّهان، حَتَّى لَوْ كانَ واهِيًا أَنَّ تْرامْب أَظْهَرَ نَوْعًا من مُحاوَلَةِ التَّمايُزِ عَنْ إِسْرائيل، كَما بَدا في اتِّصالاتِ مُمَثِّليهِ الْمُباشِرَةِ مَعَ "حَماس"، وَتَفاهُمِهِ مَعَ "الحوثِيّينَ" على وَقْفٍ لِإِطْلاقِ النّارِ لا يَشْمَلُ عَمَلِيّاتِهِمْ ضِدَّ إِسْرائيل، وَنُصْحِهِ لِنِتِنْياهو بِالتَّنْسيقِ مَعَ أرْدوغان في سورِيا، وَدَعْمِ نِظامِ الشَّرْعِ في الوَقْتِ الذي تُعَرْبِدُ فيهِ إِسْرائيلُ في سورِيا.
وَالأَهَمُّ من ذَلِكَ كُلِّهِ خُطَّتُهُ لِمُسْتَقْبَلِ غَزَّة، وَالتي مَهْما كانَتْ نِقاطُ العَوارِ فيها تَنْطَوي على عَناصِرَ إِيجابِيَّةٍ لا تَتَّسِقُ وَالأَهْدافَ الإِسْرائيليةَ كَضَمِّها وَتَهْجيرِ سُكّانِها، وَبِالتّالي فَهُناكَ أَساسٌ لِلاعْتِقادِ أَنَّ تْرامْب يُمْكِنُ أَنْ يَقومَ بِدَوْرِ الكابِحِ بِدَرَجَةٍ ما لِلْعَرْبَدَةِ الإِسْرائيلية، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ رَغْبَتِهِ في الظُّهورِ بِمَظْهَرِ صانِعِ السَّلام، أَوْ لِإِدْراكِهِ فَشَلَ إِسْرائيلَ في تَحْقيقِ أَهْدافِها بِالقُوَّة، وَكَذَلِكَ إِدْراكِهِ تَحَوُّلاتِ الرَّأْيِ العَامِّ العالَميِّ بِما في ذَلِكَ الأَميركيِّ ضِدَّها.
المطلوب الإسراع في توحيد الصف الفلسطيني وتوحيد المواقف العربية حتى يكون بمقدورنا مواجهة ما هو قادم
غَيْرَ أَنَّنا لا يُمْكِنُ أَنْ نَرْكُنَ لِهَذا الأَساسِ كَثيرًا، فَنِتِنْياهو يُجيدُ التَّعامُلَ مَعَ هَذِهِ التَّحَوُّلات، كَيْ يُفْرِغَها من مَضْمونِها، فَقَدْ قَبِلَ وَقْفَ إِطْلاقِ النارِ بِضَغْطٍ من تْرامْب في يَنايِرَ/كانونَ الثّاني 2025، وَانْتَهَكَهُ بَعْدَ شَهْرَيْن، وَقَبِلَ وَقْفَ إِطْلاقِ النارِ بِموجَبِ الاتِّفاقِ الأَخير، وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ أَصْلًا، مَعَ حِرْصِ البَياناتِ الإِسْرائيليةِ على الْإِشارَةِ إلى أَنَّ مَرْكَزَ التَّنْسيقِ الْأَميركيّ، الذي صُوِّرَ على أَنَّهُ سَيَكونُ الآمِرَ الناهِيَ في مُراقَبَةِ وَقْفِ إِطْلاقِ النار، يُحاطُ عِلْمًا بِالْعَمَلِيّاتِ الإِسْرائيليةِ، وَهِيَ رِسالَةٌ ضِمْنِيَّةٌ تَقْصِدُ بِها إِسْرائيلُ أَنَّ انْتِهاكاتِها تَحْظى بِتَفَهُّمٍ أَميركِيّ.
كَما أَنَّهُ مِنَ الواضِحِ رَفْضُ نِتِنْياهو الطَّلَبَ الْأَميركِيَّ بِالخُروجِ الآمِنِ لِمُقاتِلي المُقاوَمَةِ من رَفَحَ مَعَ تَسْليمِ أَسْلِحَتِهِم، وَيُمْكِنُنا أَنْ نُضيفَ تَجاهُلَهُ تَصْريحاتِ تْرامْب بِخُصوصِ تَعْديلِ سُلوكِ إِسْرائيلَ تُجاهَ نِظامِ الشَّرْع، ناهيكَ بِالتَّماهي بَيْنَ سِياسَتَيْ تْرامْب وَنِتِنْياهو تُجاهَ لُبْنان، وَكُلُّها مُؤَشِّراتٌ لا تُطَمْئِنُ فيما يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَةِ تْرامْب على كَبْحِ جِماحِ السُّلوكِ الإِسْرائيلي.
وَالرِّسالَةُ واضِحَةٌ وَهِيَ مُنْتَهى اليَقَظَةِ في مُتابَعَةِ ما يَجْري، وَمُنْتَهى التَّمَسُّكِ بِنُصوصِ الاتِّفاقِ وَروحِها، وَمُنْتَهى الإِسْراعِ في تَوْحيدِ الصَّفِّ الفِلَسْطينيِّ وَإِصْلاحِ السُّلْطَةِ الفِلَسْطينِيَّةِ وَتَوْحيدِ المَواقِفِ العَرَبِيَّة، حَتّى يَكونَ بِمَقْدورِنا مُواجَهَةُ ما هُوَ قادِمٌ من تَلاعُبٍ إِسْرائيلي وَعَدَمِ حَسْمٍ يُساوي الخِذْلانَ مِنَ الجانِبِ الْأَميركِيّ.
(خاص "عروبة 22")

