المشروع العربي وآفاق المستقبل

كَيْفَ تَحْكُمُ قَواعِدُ "سيليكونْ فالي" المـُجْتَمَعاتِ العَرَبِيَّة؟

أَشَرْتُ في مَقالَتَيْنِ سابِقَتَيْنِ على مِنَصَّةِ "عُروبَة 22"[1] - حَوْلَ ضَرورَةِ إيجادِ مِنَصَّةٍ رَقْمِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ بِمُواصَفاتٍ عالَمِيَّة - إلى المَخاطِرِ التي سَتَلحَقُ بالأَجْيالِ العَرَبِيَّةِ القادِمَةِ، بِفِعْلِ زِيادَةِ حُضورِها داخِلَ بيئاتٍ رَقْمِيَّةٍ غَرْبِيَّةٍ لَمْ تَنْبَعْ مِنْ خُصوصِيّاتِ بيئَتِنا وَثَقافَتِنا وَتاريخِنا المـُشْتَرَك، بَلْ في سِياقٍ ليبيرالِيٍّ واسْتِهْلاكيٍّ يَسْعى لِقَوْلَبَةِ السُّلوكات، والتَّحَكُّمِ في الحاجات، بِمَعْنًى أَدَقَّ يَسْعى لِحَوْكَمَةِ المـُجْتَمَعاتِ بِحَوْكَمَةِ المـِنَصّات.

كَيْفَ تَحْكُمُ قَواعِدُ

في هَذا السِّياق، يَتَوازى تَصاعُدُ الاهْتِمامِ بِحَوْكَمَةِ المـِنَصّاتِ والصِّراعاتِ المـُرْتَبِطَةِ بِها، مَعَ النُّفوذِ المـُتَزايِدِ الذي أَصْبَحَتْ تُمارِسُهُ المـِنَصّاتُ العالَمِيَّةُ في أَغْلَبِ المـُجْتَمَعاتِ حَوْلَ العالَم (حَوْكَمَةُ المـُجْتَمَعات)، فَخِلالَ العُقودِ الثَّلاثَةِ الماضِيَة، تَرَكَّزَ النَّشاطُ الرَّقْمِيُّ في عَدَدٍ مَحْدودٍ مِنَ المـِنَصّاتِ التي تَتَحَكَّمُ في مُحْتَوى مِلْياراتِ المـُسْتَخْدِمينَ حَوْلَ العالَم، وَتَدْرِيجِيًّا بَدَأَتْ تَتَصاعَدُ مَخاوِفُ تَبْدو اليَوْمَ أَكْثَرَ جِدِّيَّةً، بِشَأْنِ الطَّبيعَةِ المـَرْكَزِيَّةِ والغامِضَةِ لِهَذِهِ المـِنَصّاتِ العِمْلاقَةِ، وَخَلْفِيَّةِ الأَشْخاصِ القَليلينَ حَوْلَ العالَمِ الذينَ يَتَحَكَّمونَ فيها، وَأَهْدافِهِمُ الخَفِيَّةِ تُجاهَ الشُّعوبِ والحُكوماتِ واسْتِدامَةِ البيئَةِ والمـَوارِدِ لِلأَجْيالِ القادِمَة.

المنصات الرقمية صارت تُحَوْكِم المجتمعات وتُنظّم التفاعلات على نحو عابر للحدود الوطنية والثقافيّة والأخلاقية والعقدية

مِنْ بَيْنِ أَهَمِّ المَخاوِف، تِلكَ المـُتَعَلِّقَةُ بِغِيابِ العَدالَةِ الإِجْرائِيَّةِ والمـُساءَلَة (Fan et Zhang - 2020)، وَحَوْكَمَةِ المـُجْتَمَعاتِ مِنْ طَريقِ حَوْكَمَةِ المـِنَصّات، أَيْ عَبْرَ مَجْموعَةٍ مُوَحَّدَةٍ مِنَ القَواعِدِ التي تُطَبَّقُ على جُمْهورٍ عالَميٍّ مُتَنَوِّعِ الثَّقافاتِ والعَقائِدِ والعاداتِ والمـُعْتَقَدات، وَهُوَ مَسْعًى مَحْكومٌ بِالفَشَل (Seering - 2020)، لِأَنَّهُ يُضِرُّ بِالمـَجْموعاتِ التي لا تَنْسَجِمُ مَعَ المـَعاييرِ العامَّةِ لِلمـِنَصّات.

وَيُشيرُ مَفْهومُ "حَوْكَمَةِ المـِنَصّاتِ" إلى مَجْموعَةٍ مِنَ السِّياساتِ والإِجْراءاتِ التِّقْنِيَّة، وَقَراراتِ التَّصْميمِ التي يَتِمُّ مِنْ خِلالِها تَنْظيمُ المـِنَصّاتِ الرَّقْمِيَّة، والتي هِيَ ذاتُها وَعلى نَحْوٍ خَفيٍّ صارَتْ تُحَوْكِمُ المـُجْتَمَعاتِ وَتُنَظِّمُ التَّفاعُلاتِ على نَحْوٍ عابِرٍ لِلحُدودِ الوَطَنِيَّةِ والثَّقافِيَّةِ والأَخْلاقِيَّةِ والعَقْدِيَّة، بِفِعْلِ وُلوجِ مَلايينِ البَشَرِ حَوْلَ العالَمِ إِلَيْها وَبِصِفَةٍ يَوْمِيَّة.

وَمَعَ أَنَّ مَشْهَدَ التَّواصُلِ الِاجْتِماعيِّ اليَوْمَ يَميلُ إلى الانْقِسامِ والتَّعَدُّدِيَّة، بِفِعْلِ وُجودِ مـِنَصّاتٍ مُتَكَثِّرَةٍ وَمُتَنافِسَة، إِلّا أَنَّ نَماذِجَ الحَوْكَمَةِ تَظَلُّ هِيَ ذاتُها خاصَّةً في المـِنَصّاتِ الكُبْرى مِثْلَ "إِنسْتَغْرامْ" وَ"تيكْ توكْ" وَ"ميتا" وَ"إِكْسْ"، إِذْ تَميلُ هَذِهِ المـِنَصّاتُ إلى التَّرْكيزِ على حِمايَةِ مَصالِحِ الشَّرِكاتِ التِّجارِيَّة، وَزِيادَةِ الرِّبْحِيَّةِ والامْتِثالِ لِلحَدِّ الأَدْنى مِنَ المـُتَطَلَّبَاتِ القانونِيَّةِ في الأَسْواقِ العالَمِيَّة، في مُقابِلِ غِيابِ الاهْتِمامِ بِالعَدالَةِ الإجْرائِيَّةِ والشَّفافِيَّةِ والمـُساءَلَة، بِما في ذَلِكَ الحِيادُ وَعَدَمُ التَّحَيُّزِ واحْتِرامُ المـُسْتَخْدِمين، وَضَمانُ تَكافُؤِ فُرَصِ التَّعْبير.

تسامُح مع خطابات الكراهية التي يبثّها الإسرائيليون تجاه الفلسطينيين في مقابل تقييد المحتوى الفلسطيني

فيما يَخُصُّ العالَمَ العَرَبِيّ، يُمْكِنُ رَبْطُ مَفْهومِ "العَدالَةِ الإِجْرائِيَّة" بِالانْتِقاداتِ المـُوَجَّهَةِ لِحَوْكَمَةِ المـِنَصّاتِ العالَمِيَّة، عِنْدَما تَشْمَلُ قَواعِدُها وَمَعاييرُها المـُحْتَوى والتَّفاعُلاتِ المـُتَعَلِّقَةَ بِالبِيئاتِ الرَّقْمِيَّةِ العَرَبِيَّة، خاصَّةً فيما يُعْتَبَرُ غَيْرَ مُناسِبٍ أَخْلاقِيًّا أَوْ ثَقافِيًّا أَوْ عَقْدِيًّا، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ ما يَلي:

- غِيابُ فُرَصِ التَّعْبيرِ عَنِ السِّياقِ المـَحَلّيّ: حَيْثُ تُصاغُ مَعاييرُ النَّشْرِ داخِلَ الفَضاءاتِ الرَّقْمِيَّةِ العَرَبِيَّةِ بِناءً على السِّياقِ القانونيِّ والثَّقافيِّ لِلمـُجْتَمَعاتِ الغَرْبِيَّةِ في المـَقامِ الأَوَّل، كَما تَفْتَقِرُ خَوارِزْمِيّاتُ المـِنَصّاتِ إلى الفَهْمِ العَميقِ لِلفُروقِ الدَّقيقَةِ في اللُّغَةِ واللَّهَجاتِ والسِّياقاتِ التّاريخِيَّةِ والحَضارِيَّةِ العَرَبِيَّة؛

- التَّحَيُّزُ وَغِيابُ المـَوْثوقِيَّة: أَثْبَتَتِ الكَثيرُ مِنَ الأَحْداثِ التي شَمِلَتِ السِّياقَ العَرَبِيَّ، تَحَيُّزًا ضِمْنِيًّا يُفَضِّلُ القِيَمَ والمـَصالِحَ اللّيبيرالِيَّةَ الغَرْبِيَّة، ضِدًّا عَنْ تَفْضيلاتِ المـُسْتَخْدِمينَ العَرَب، وَعلى حِسابِ العاداتِ والتَّقاليدِ والقِيَمِ المـُحافِظَةِ السّائِدَةِ في المـُجْتَمَعاتِ العَرَبِيَّة، إِضافَةً إلى وُجودِ تَفاوُتٍ في تَطْبيقِ القَواعِد، مِثْلَ التَّسامُحِ مَعَ خِطاباتِ الكَراهِيَّةِ التي كانَ يَبُثُّها الإِسْرائيليّونَ تُجاهَ الفِلَسْطينيّينَ في سِياقِ الحَرْبِ على غَزَّة، في مُقابِلِ تَقْييدِ المـُحْتَوى الفِلَسْطينيّ، الأَمْرَ الذي أَثارَ الشُّكوكَ حَوْلَ نَزَاهَةِ وَمَوْثوقِيَّةِ القائِمينَ على حَوْكَمَةِ مِنَصّاتٍ ذاتِ تَأْثيراتٍ عالَمِيَّة؛

- ضَعْفُ الشَّفافِيَّةِ وَعَدَمُ القُدْرَةِ على التَّفْسير: وَمَرَدُّ ذَلِكَ إلى أَنَّ أَغْلَبَ وَثائِقِ السِّياساتِ وإِجْراءاتِ الحَوْكَمَةِ لَدى المـِنَصّاتِ لا تُتاحُ دائِمًا بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ دَقيقَة، وأَحْيانًا تُتَرْجَمُ بِشَكْلٍ غَيْرِ سَليم، مِمّا يُعيقُ فَهْمَ المـُسْتَخْدِمينَ العَرَبِ لِحُقوقِهِمْ وَكَيْفَ تُطَبِّقُ المـِنَصّاتُ قَواعِدَها عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الأَمْرُ الذي يُقَوِّضُ مَبْدَأَ الوُضوحِ الإِجْرائيِّ كَما يَنُصُّ عَلَيْهِ فُقَهاءُ القانون.

يمكن أن يجد العالم العربي فرصًا لبناء نماذج محلية تتجاوز مخاطر حوكمة المجتمعات العربية بثقافة وقيم ومصالح غربية

وَعلى سَبيلِ الاسْتِشْراف، يَدْخُلُ العالَمُ قَريبًا مَرْحَلَةً جَديدَةً سَيُخْتَبَرُ فيها عَدَدٌ أَكْبَرُ مِنْ نَماذِجِ الحَوْكَمَة، وَتَعَدُّدُ مَراكِزِ السُّلطَةِ وَصِناعَةِ القَرارِ الخَوارِزْمِيِّ لَدى المـِنَصّاتِ الرَّقْمِيَّة، وَفي ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَجِدَ العالَمُ العَرَبِيُّ فُرَصًا مُتاحَةً لِبِناءِ نَماذِجَ مَحَلِّيَّة، تَتَجاوَزُ مَخاطِرَ حَوْكَمَةِ المـُجْتَمَعاتِ العَرَبِيَّةِ مِنْ طَريقِ حَوْكَمَةِ مَنَصّاتٍ ليبيرالِيَّة، بِثَقافَةٍ وَقِيَمٍ وَمَصَالِحَ غَرْبِيَّةٍ لا مَكانَ فيها لِلآخَرِ المـُخْتَلِف، وَلَنْ يَتَأَتّى ذَلِكَ، إِلّا بِدَعْمٍ واعٍ قادِرٍ على اسْتِشْرافِ التَّحَدِّيات، وَتَذْويبِ الخِلافات، دَعْمٍ يُقَدِّمُهُ أَصْحابُ القَرار، وَرَأْسُ المال، والِانْخِراطُ الطَّوْعِيُّ لِلشُّعوبِ العَرَبِيَّة، لِبِناءِ مِنَصّاتٍ إِقْليمِيَّةٍ وَمَحَلِّيَّة، تُسْهِمُ في تَعْزيزِ اللّامـَرْكَزِيَّة، وَتَمْنَحُ مُسْتَخْدِمي المـِنْطَقَةِ خِياراتٍ أَوْسَعَ في الإِشْرافِ والحَوْكَمَة، والحُضورِ عالَمِيًّا بِهُوِيَّتِهِمْ وَأَصَالَتِهِمُ الحَضارِيَّة، وأَوْلَوِيّاتِهِمُ الاسْتْراتيجِيَّة، يُحافِظونَ بِها وَمِنْ خِلالِها على الذّاتِ وَعلى المـُجْتَمَعاتِ والأَوْطان، وَعلى مـُسْتَقْبَلٍ مـُمْكِنٍ لِلأَجْيالِ القادِمَة.



[1] - منصة رقمية عربية: جدار حماية على نمط صور الصين العظيم 

    - دعم المنصات العربية: فرصتنا لتخفيف القوة الجيوسياسية للاقتصاد الرقمي


(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن